Follow us

image

زيارة إلى متحف جبران خليل جبران في بْشرِّي - الشاعر هنري زغيب

في 25 حزيران 1895 وصل جبران إلى مرفأ إيليس آيلاند (أسفل مانهاتن – نيويورك) وهو ابن 12 سنة، برفقة أمه كاملة وأخيه الأكبر بطرس وشقيقتيه سلطانة ومريانا.

وفي 10 نيسان 1931 انطفأ النور في عينيه وهو يحلم بأن يعود الى وادي قاديشا الذي أوصى شقيقته مريانا بشراء دير مار سركيس على كتف الوادي ليكون مستراحه، فإذا به يمسي متحفه الذي يضمّ إرثه الكبير.

فماذا في هذا المتحف؟

يستريح المتحف عند لحف الجبل، يلفّك بالمهابة ويمتدّ أمامك وادي قاديشا المهيب الذي قال عنه جبران لصديقه ميخائيل نعيمة ذات يوم من تشرين الثاني 1927: "أمنيتي، يا ميشا، أن أزور وادي قاديشا قبل أن أموت".

ندخل المتحف في خشوع الحجاج، يستقبلنا صوت الناي. النايُ الأحبُّ إلى قلب جبران. وتطالعنا عراقة التاريخ.

يشرح لنا وهيب كيروز (عيّنته لجنة جبران حافظ المتحف منذ 17 آب 1971 ولا يزال): "نحن هنا في محبسة مار سركيس. يعود بناؤها إلى ما ينوف على ألف سنة. في أواسط القرن السادس عشر، كان هذا البناء مقراً للقنصل الفرنسي خلال الصيف. وفي مطلع القرن السابع عشر منح البشراويون الدير والمحبسة إلى الآباء الكرمليين ليكملوا رسالتهم الروحية في البقعة الممتدة بين وادي قاديشا والأرز. عام 1701 هدم الرهبان البناء القديم وشيدوا مكانه، شرقي المحبسة، الدير القائم الآن.

وظلوا يخدمون فيه رسالتهم حتّى 1908. على هذا الإطار وعى جبران: المغارة في الجبل، والمحبسة والكنيسة والدير والتراث الروحي والطبيعة المذهلة ووادي قاديشا الساحر".

يسكت وهيب كيروز. يتردد صوته في أرجاء المكان. يكمل الصمت حكايةً من عهد جبران.

تُراه، عام 1895 قبل أن يغادر مع أمه وشقيقتيه وأخيه بطرس إلى "الأرض الجديدة"، التفت مرةً أخيرة إلى الدير، وقال في صمته: "سأعود"؟

وهو فعلاً عاد. أربع سنوات عاد إلى لبنان (1898- 1902)، وتمتعت عيناه بالرؤى القاديشاوية لتنْزرع في ريشته وقلمه طوال "منآه" في أميركا. وكم كان ينوي أن يعود لينهي حياته في لبنان!

عام 1926 كتبَ الى صديقه البشرّاوي يوسف طربيه رحمة طالباً منه أن يفاوض الآباء الكرمليين على شراء المحبسة والدير، فيجعل من الأولى مدفنه، ومن الأخير صومعة لفنّه. كان البيع عند الآباء الكرمليين محرماً في ذلك الحين. لكن شهرة جبران كانت كافية لإقناع رئيس الدير بالبيع، طمعاً بعودة ابن بشري إلى مسقط رأسه.

وعاد، إنما... بدون النور في عينيه. عاد جثماناً في تابوت، وكانت عودتُه احتفالية: يوم 23 تموز 1931، وفي طقس حزين يبلّله رذاذ أميركيٌّ خفيف، تَمّ نقْل الجثمان من بوسطن (مدفن كنيسة سيّدة لبنان) إلى مرفإ بروفيدنس (عاصمة ولاية رود آيلاند المحاذية نيويورك)، ومن هناك أقلعت به الباخرة "سينارا" صوب الشرق.

- 21 آب: رست الباخرة في مرفأ بيروت، وكان للجثمان استقبال رسميٌّ وشعبيّ.

- 22 آب: وصل الجثمان الى بشري على أكتاف البشراويين تتقدّمهم مريانا المفجوعة التي، بمال شقيقها الفقيد وبناء على رغبته ووصيته، تمكنت من شراء البقعة المحيطة بالدير. وُضِعَ الجثمان في دير مار يوحنا مؤقتاً، بانتظار استصلاح دير مار سركيس الذي انتقل إليه في أواخر 1931.

نتجوّل في الدير. أمامنا 16 غرفة هي اليوم كل المتحف. غرفة أولى تضمّ كتب جبران وكتباً عنه. ثمّ غرفة "ينبوع النبي" تسقسق فيها مياه عذبة من نبع في قلب الصخر. في غرفة ثالثة موجودات من "صومعة" جبران في نيويورك (المبنى 51 على الشارع العاشر غرباً) حيث أمضى آخر عشرين عاماً من حياته (1911- 1931). بين الموجودات: صندوقة خشبية، كرسي مكسورة الرِّجْل الرابعة، كراسٍ عتيقة (كان حتماً يجلس على إحداها ميخائيل نعيمة خلال زياراته إلى "الصومعة" النيويوركية)، مرآة عتيقة، ركوة قهوة (كان يُحِبّ أن يهيِّئ بيده قهوته اللبنانية لزواره)، أوانٍ عتيقة، المصلوب.

وخارج هذه الغرفة، تتوزع الأعمال معروضة على الجدران في عناية وصيانة. في إحدى الغرف دفاتر بخط جبران: خربشاتٌ وأفكارٌ ومقاطعُ وكلماتٌ منثورةٌ وَجَدَ بعضُها طريقه إلى الكتب التي صدرت.

على إحدى الصفحات مطلع قصة "الرفيقة الأثيرية" بدأ يكتبها بالقلم الرصاص. في زاويتين كبيرتين من غرفة أخرى: مكتبته التي كانت لديه في "الصومعة": عشرات الكتب بالإنكليزية لشعراء كبار وفلاسفة وأدباء. بعضها مهدى إليه بخط المؤلّف.

اللوحات المعروضة في المتحف تبلغ 160 عملاً بين زيتي ومائي ورصاصي وطبشوري. والمجموعة الكاملة يقدّرها وهيب كيروز- وهو الخبير العارف- بنحو 420 عملاً.

ثم... نزولاً في أدراج صخرية لولبية مؤدية إلى تحت، إلى نهاية عمق الدهليز، إلى المغارة التي شاءها مدفنه الأخير.

ها نحن "عنده" في غرفة المحبسة التي تحتضن رفاته.

تابوته الأبيض الفضي هنا، داخل الكوة المحفورة في قلب الصخر: مُزَنَّرٌ بسلسلتين تحميانه من أن يفتحه غُلاة الزوار. هنا سريره الذي طالما كان يستلقي عليه حين يَعُوده زوارُه في نيويورك وهو مريض. المصلوب فوق السرير. على السرير تكَّايات ملوَّنة.

قرب السرير طاولة مستديرة كتب عليها معظم مؤلّفاته الإنكليزية والعربية، الجدارية الكبيرة التي كانت في محترفه (وله عدة صور أمامها) ثمّ خزانة كبيرة فيها عدة جوارير صغيرة كان يضع فيها بعض الريشات والألوان والقطع الصغيرة التي يحتفظ بها.

على التابوت شهادة: "هذا تابوت جبران خليل جبران. والجثمان تم تحنيطه". الإمضاء: "قنصل فرنسا في الولايات المتحدة". فهو كان لا بدّ من شهادته وموافقة فرنسا لينتقل الجثمان من البلد الذي مات فيه جبران إلى لبنان الذي كان فترتئذٍ تحت الانتداب الفرنسي.

ماذا عن الجثمان؟

آخر مرة تمّ فتحُ التابوت والكشف على الجثمان، كانت عام 1974. كان الجثمان تعرَّض لبعض اهتراء، على ما يتذكر حافظ المتحف وهيب كيروز.

أغراض جبران التي كانت في "صومعته"، وصلَت من نيويورك عام 1932، وتمّ وضعها مؤقتاً في إحدى البنايات، ثمّ تنقَّلت في أكثر من مكان قبل أن تستقر في المكان الحالي (المتحف) تلبية لوصية جبران التي كتبها في 13 آذار 1930 واستودعها محاميه إدغار سباير في نيويورك. ومما جاء فيها: "كل ما في محترفي من رسومٍ وكتبٍ وسلعٍ فنيةٍ وموجودات، أوصي به بعد مماتي إلى السيدة ماري هاسكل ماينس... وأرغب إليها، إذا هي استنسبت ذلك، أن تبعث بها إلى بلدتي بشري التي أوصي لها بريع كتبي".

وهكذا كان... و"استنسَبَت" ماري ذلك، هي التي كانت تقدّس كل ما يقوله أو يطلبه جبران.

وحين عيّنت لجنة جبران الوطنية فريد سلمان مستشاراً لها عام 1971، كشف على تلك الموجودات الآتية من نيويورك، ووجد بينها رسالتين فيهما رغبة جبران أن يدفن في دير مار سركيس. وأسندت اللجنة مسؤولية المتحف إلى وهيب كيروز الذي ما زال يقوم بمهمته في أمانة علمية ووفاء كبير.

منذ نشوء المتحف، وزوّاره لا ينقطعون. تمّ إقفاله في 17 تموز 1975 بسبب الأحداث، ثمّ أعيد فتحه عام 1992 فتوافد الزوّار بالآلاف بعد طول إقفال.

وما زال جبران يستقطب رواداً في العالم إلى لوحاته وإلى كتبه التي باتت مترجمة إلى نحو 60 لغة عالمية، والى متحفه الذي ينْزوي مغارةً في لحف الجبل تستقطب إليها الناس من كل العالم، حين يخرجون من المتحف يلفتهم وادي قاديشا المهيب.

نخرج من المتحف، أمامنا الوادي المهيب، وراءنا جبران في صومعته اللبنانية، وفي سمعنا يتردد كلام وهيب كيروز عنه في تهيب خاشع. فهو يلازم جبران يومياً منذ نصف قرن، ومن هنا أهمية إنتاجه عنه: "عالم جبران الفكري" (جزءان)، "عالم جبران الرسام"، "جبران في متحفه"، و"جبران في عصره: محاولة لتغيير عصر".

وأية ملازمة أسمى من العيش يومياً داخل مدارِ من عاش في عمق زقاقٍ نيويوركي رهيب الضجيج، وظلّ يتوق إلى سكون بشري وهدأة مار سركيس، وحكاياتٍ من طفولته كم رَوَى بعضها إلى ماري هاسكل، وخبَّأَ البعض الآخر في صمته.

ولا تزال كل يوم، في ظلّ سكينة مار سركيس، تستعاد حكاياتٌ، بعضُها أُسطوريٌّ وبعضُها الآخَر واقعيّ، عن فتى حالم غادر تلك البقعة في سنته الثانية عشرة، في السابع من شهر الحصاد، وعاد إليها حاملاَ وزناتٍ لا تزال تتكاثر حتى اليوم.

*عن موقع "جماليا" للثقافة والفنون - نشر عام 2006 بقلم الشاعر هنري زغيب