Follow us


مقالان عن موضوع الخطر على مسيحيّي المشرق – بقلم: جهاد الزين

كتب جهاد الزين في "النهار":

**المقال الأول: لماذا لا تدعو المسيحية السياسية اللبنانية إلى حالة طوارئ حول مسيحيّي المشرق؟

(نشر في "النهار" في 22 تموز 2014)

بعد أكثر من ستين عاماً على انهيار المكوّن اليهودي في المنطقة العربية ومعظم المسلمة بسبب تأسيس إسرائيل، ها هو المكوّن المسيحي، الأضخم عدداً من الوجود اليهودي السابق، يدخل في دوامة خطر وجودي غير مسبوق بسبب الأصولية الإسلامية.

هناك منعطفان كبيران للتغيير الديموغرافي الذي غيّر من شخصية مجتمعاتنا العربية وبعض الإسلامية في العصور الحديثة:
الأول هو تأسيس إسرائيل الذي جعل مجتمعاتنا تخسر بشكل شبه تام المكوّن اليهودي. كانت الجماعات اليهودية جزءاً عضويا من حياتنا العربية في مصر واليمن والمغرب والشام والعراق، كذلك في العالم الإيراني ونسبياً التركي. لكن التوتر العميق الذي أعقب تأسيس إسرائيل عبر طرد الفلسطينيين جعل وجود اليهود يتلاشى تدريجيا في المحيط العربي لأنه لأسباب عديدة لم يعد ممكنا في ظل صراع بهذه الضراوة.
الثاني هو العشر سنوات الأخيرة المنطلقة من التغيير العراقي والانفجار السوري. فالتداخل السوري العراقي هو المنعطف الآخر النوعي الذي يمكن أن يؤدي إلى خسارة وشيكة للمكوِّن المسيحي في سوريا والعراق (ناهيك أصلاً عن شبه تلاشي الوجود المسيحي في إسرائيل والمناطق التي تحتلها).
إذن بعد أكثر من ستين عاماً على انهيار المكوّن اليهودي في المنطقة العربية ومعظم المسلمة، ها هو المكوّن المسيحي، الأضخم انتشاراً وعدداً من الوجود اليهودي السابق، يدخل في دوامة خطر وجودي غير مسبوق.
إذا كان صعود الصهيونية مسؤولاً عن السياق التاريخي الذي ضرب المكوّن اليهودي في مجتمعاتنا، فإن صعود الأصولية الإسلامية هو المسؤول عما آلت إليه أوضاع المسيحيين. وأمام تدهور كارثي من هذا النوع  أي معنى، في هذا المقام، للحديث عن "أصولية معتدلة" و"أصولية متطرفة"؟ فما ثبت في الثلاثين عاما الأخيرة هو أن الأصولية المتطرفة وُلدت في رحم الأصولية المسماة حاليا "معتدلة". وبهذا المعنى تلتقي مسؤوليات النخب المسلمة والمسيحية في المنطقة في البحث عن مخرج من كل المناخ الأصولي الذي يستشري في مجتمعاتنا ودولنا، ليس فقط سياسياً بل أيضا اجتماعياً وثقافيا واقتصادياً.
الكنيسة القبطية في مصر دخلت بشكل غير مسبوق الصراع على هوية الدولة في مصر وانحازت بوضوح إلى التيار المعادي لـ"الإخوان المسلمين".
تركيا الديموقراطية الحالية وبسبب من ظروف تشكّلها في النصف الأول من عشرينات القرن المنصرم والتي أدت إلى تلاشي الوجود اليوناني والأرمني في الأناضول وبالتالي تلاشي معظم الوجود المسيحي على أراضيها بفعل المضمون الديني المباشر للصراع التركي (المسلم) اليوناني الأرمني (المسيحي)... هذه التركيا غير حساسة بنيويّاً لموضوع الوجود المسيحي في المنطقة و"نسيت" طويلا هذا التقليد العريق الذي صمد حتى نهاية الامبراطورية العثمانية.
إيران ذات النظام الديني هي أيضا معنية بنيويا بأولويات أخرى غير التنوع الديني حتى لو أن هذه الإيران انتبهت عبر انخراطها في التغيير العراقي والصراع على سوريا إلى معنى تهديد الوجود المسيحي في هذين البلدين. هذا ناهيك عمّا تعلّمت إيران رجال الدين، وتركيا "حزب العدالة والتنمية"، من التجربة اللبنانية ودور المسيحيين التأسيسي فيها. لكن الخشية هي أن كل هذا التعاطي مع دول ومجتمعات متعدّدة عربية لا يتجاوز في الخطابين الإيراني والتركي حدود اللياقات السياسية والثقافية.
المملكة العربية السعودية معنية بالحد من اتساع قوة "الهلال الشيعي" الإيراني وهي تتعامل منذ عام 2003 العراقي على أساس حماية خرائط منظومة دول مجلس التعاون، ليس بالدفاع وإنما بالهجوم... لكن المفارقة أن المملكة الأكثر قيادةً للاستنفار السني في وجه إيران هي نفسها باتت تخوض صراعاً مع "الإخوان المسلمين" وساهمت في إقصائهم في مصر. وهذا دورٌ قد يساهم مستقبلاً في نقل المنطقة إلى مناخ  غير مذهبي للصراعات.
على صعيد آخر، فعدا زيارة البطريرك الماروني بشارة الراعي إلى دمشق وزيارته لاحقا إلى إسرائيل لم تظهر على سطح الأحداث في المنطقة أي خطوة لمسؤول سياسي أو ديني أو لهيئة تمثيليّة أساسية من مسيحيّي الهلال الخصيب والعراق، ولبنان خصوصاً، تدل على استشعار عملي لاستثنائية الخطر الوجودي الذي يتعرّض له المسيحيون في المنطقة، ولاسيما مجدّدا في سوريا والعراق.
دلالة زيارتيْ البطريرك الماروني تتجاوز مناسبتيهما، الأولى للمشاركة في تنصيب البطريرك الأرثوذكسي والثانية لمرافقة بابا الفاتيكان في زيارته للأردن وإسرائيل والأراضي الفلسطينية.
عنتْ الزيارتان وجود تغيير في السلوكيات السياسية للكنيسة المارونية تمليه الحالة غير المسبوقة في المنطقة والتي باتت تهدد، أو هي فعلت فعلاً، بتغيير كامل لبنية المنطقة الدينية والحضارية منذ ظهور الإسلام في المشرق الشامي العراقي. لكن الفجيعة الكبيرة أن الهيئات التمثيلية السياسية لمسيحيي لبنان، الكتلة الوحيدة القوية سياسيا واقتصاديا بين مسيحيي المشرق (حتى لو كانت أقل ديموغرافياً من أقباط مصر)، أن هذه الهيئات التمثيلية لم تتحرك بما يعكس مسؤوليات هذا الوضع الخطير بل استمرّت في الغرق بخصوماتها الذاتية وفي انخراطاتها الخارجية وكأن ما يحدث لمسيحيي المنطقة لا يستأهل التصرف على أساس حالة طوارئ تدعو إليها باتجاه بناء استراتيجية جديدة باتت مطلوبة.
أين المراجعة الجادة التي تتجاوز مجرد التكتيك وتوجيه النداءات؟ نقول ذلك مع كامل المعرفة بحجم ارتباط وانخراط النخبتين السياسيتين السنية والشيعية المسيطرتين على طائفتيهِما، بل الطبقة السياسية اللبنانية كلها، بمشاريع إقليمية متناحرة.
في زمن هو أقرب إلى النهايات (التدميرية) منه إلى البدايات (البنّاءة)، ربما أصبح مطلوبا أن تتعامل قيادات المسيحيين اللبنانيين مع قضية مسيحيي المنطقة باعتبار لبنان "مسؤولا" عن مصير مسيحيي المنطقة وليس مجرد شاهد كبير عليه. هذا يعني مسؤولية سياسية تستلزم أولويات جديدة وهو بالنتيجة وضع مهمة نبيلة نصب أعين كل النخب اللبنانية (والعربية) من أي طائفة كانت.

 

**المقال الثاني: ديموقراطية عربية من دون مسيحيين

(نشر في "النهار" في 24 تموز 2014)

من أعقد وأصعب المعطيات التي كشفتها موجات "الربيع العربي" أن الديموقراطيّة ليست ضمانة كافية لإنقاذ ما تبقى من الوجود المسيحي في منطقة المشرق العربي أو لتحسين ظروف معاملة المسيحيين في بعض دول المنطقة.
ثورة ميدان التحرير في مصر أتت بشكلٍ ما ولو سلبيٍّ من الديموقراطية. لكن ظهر أن القوى الأصولية التي تصدّرت واجهتها هي قوى أقل ما يقال عنها أنها غير معنية بأولوية المساواة بين المسيحيين والمسلمين بالمعنى الشامل والأعمق للكلمة.
في سوريا، وعلى فرض أن المسار المدني الذي انطلقت منه الأحداث استمر في التصاعد السلمي (وهذا افتراض تجاوزته الأحداث نفسها) فلم تكن هناك ضمانة أكيدة أن لا تساهم "الديموقراطية السورية" في تعزيز التشدّد الأصولي الإسلامي، فكيف وقد ثبت بالملموس الدموي أن المشروع الديموقراطي كانت تحمله نخبة معارضة سورية للنظام من جميع الطوائف معظمها علماني فيما المجتمع ينتج، كما في العراق السني والشيعي، قوى دينية متشدّدة اجتماعيا وثقافيا وسياسياً.

ديموقراطية عربية من دون مسيحيين: أي خيار بائس، هذا إذا ثبت في الجيل الحالي أن من الممكن لمجتمعٍ أقصى تعدديتٓه القومية والدينية وحتى المذهبية يمكنه أن يبني دولة مدنية حديثة وديموقراطية.
في الحقيقة تحتاج موضوعة "الإقصاء" الذاتي في التجربة الحديثة لمجتمعاتنا العربية والمسلمة إلى مراجعة.
هناك تجربة بناء الدولة الوطنية في بلدان مثل الهند وتركيا والتي ولدت من صراع قومي- ديني أدى في كلٍ منهما إلى موجة إقصائية بدت وكأن هذه الدولة الوطنية لا تولد دونها بالنسبة للأتراك أو الأرمن أو اليونانيّين.
بالنسبة لنا في العالم العربي كانت ولادة إسرائيل المنعطف الذي افتتح مسار تخريب نسيج المنطقة التاريخي من طنجة إلى بغداد. لقد جعل هذا التأسيس الأصولية القومية والدينية المدخل العربي الرئيسي لممارسة السياسة.
سمح الحدث الإسرائيلي بإقصاء أو تهميش طبقات وتيارات ومذاهب وأديان بشكل تدريجي. أصبحت الراديكالية هي بنية الفكر السياسي العربي ومن لم يدخل، بالنتيجة، تياراً أو فردا أو جماعةً، في هذا المنحى سيتعرّض للتهميش أو للإقصاء. هكذا عجزت البورجوازية الوطنية المتنورة التي أمسكت بلدانها بعد الحرب العالمية الأولى بعد نجاحها في قيادة هذه البلدان-الدول الجديدة نحو الاستقلال... عجزت عن مواجهة المسألة الوطنية التي تجذّرت بعد ولادة إسرائيل عام 1948. سقطت وسقطت معها تدريجيا أنظمة حكم وأنماط خطاب سياسي.
لنراقب تحوّلٓ المدنِ العربية في الستين عاماً الأخيرة، وتفاقمٓ هجرات النخب والكفاءات إلى الغرب من كل الطوائف والأديان والدول. إنه "إقصاء" الدول الفاشلة لاسيما في الأربعين عاما الأخيرة. لم يفرغ الكثير من هذه المدن من جزء أساسي من تنوعه الطبقي والفكري والديني فحسب، بل أيضا من نخبه الواعدة والخلاقة.
هذا هو الإطار العام الذي انكشفت فيه مسألة تلاشي الوجود اليهودي في مدننا والخطر الجاد الذي يتهدد مسيحيي المنطقة والذي لا تستطيع "الكتلة الأخيرة" المسيحية في لبنان مهما كانت متماسكة اجتماعيا ومزدهرة اقتصاديا وثقافياً وقوية سياسيا أن تتجاهله بل أن تقف مكتوفة الأيدي حياله وهي التي تميّزت عن الكتل المسيحية الأخرى في المنطقة (بما فيها الكتلة المصرية) بكونها كتلة سياسية مؤسِّسة للدولة اللبنانية، وتملك اليوم لكل ذلك وضعية قيادية حيال مسيحيي المنطقة الذين يمرون بأصعب الظروف مثلهم مثل مسلمي سوريا والعراق. لكن الفارق أن تأثير الإقصاء والحروب على المسلمين وبين المسلمين أقل خطورة وجودية من الناحية الديموغرافية بسبب الفارق العددي بين الأكثريات والأقليات، مع أن زميلاً- صديقاً قال لي أمس مناقشاً أن الاضطهاد الأصولي هو أكثر قسوة على المسلمين منه على غيرهم. لن أفاضل بين أشكال القسوة لأن المسألة الجوهرية هي التهديد الأصولي لشخصية مجتمعاتنا التعددية نفسها.
لا نستطيع تجاهل ذكريات الحرب الأهلية اللبنانية التي كانت مسيحية مسلمة وأدت إلى فرز على الجانبين. كانت المسيحية اللبنانية المسيحية المقاتلة الوحيدة الباقية في العالم العربي. انتهت التجربة السياسية في الحرب الأهلية بشكلٍ لا يشجّع على تكرارها. لكن دعونا نعترف أن الوجود المسيحي في مدن مثل صيدا وصور وبعلبك كان يتضاءل عبر مسار طويل سبق الحرب الأهلية ومن دون ضجة إلى حد التلاشي شبه الكامل. وجاءت هذه الحرب لتوجّه ضربة كبيرة وأحيانا قاضية. هذا يجب أن يُدرٓس في السوسيولوجيا السياسية باعتبار "أسلمة" المدن الشامية والعراقية بادئة من مرحلة السلم بعد الاستقلال. حتى أن أنطوان عبدالنور في كتابه القيّم "مدخل إلى تاريخ المدن السورية في العهد العثماني" يلاحظ أن أحياء مدينة حلب كانت مختلطة بين اليهود والمسيحيين والمسلمين في القرنين السابع عشر والثامن عشر بل حتى ثمة بيوت كانت ذات ملكية مشتركة أي الدار الواحدة التي تعيش فيها عائلتان مسيحية ومسلمة أو ربما أكثر... مما يعني أن انفصال الأحياء داخل بعض المدن الشامية بدأ في القرن التاسع عشر فيما انتقال المسيحيين من مناطق ومدن إلى مناطق ومدن أخرى أكثر تناغما دينياً تفاقم كما هو معروف بعد أحداث 1860 في دمشق كالهجرتين من دمشق وحلب إلى بيروت.
اليوم وصلنا إلى قعر الانحطاط وعنوانه المعروف: داعش في الموصل. لكن ما العمل واستئصال مسيحيي المشرق يترافق مع انحلال دولنا ومجتمعاتنا بكل طوائفها في زمن سيسمّيه أحفادنا المهاجرون في الغرب زمن الحرب الأهلية السنية الشيعية.

*عن جريدة النهار

*** الصورة المرفقة هي لدير مار سمعان القرن ومزار القدّيسة رفقا في بلدة أيطو، شمال لبنان . من مجموعة صفحة دور العبادة في لبنان ونورث ليبانون على الفايسبوك)