Follow us


“من كرسي البلدية الى كرسي البلد” بقلم: الدكتور بلال صنديد

قراءات في الانتخابات البلدية اللبنانية لعام 2016

بقلم: الدكتور بلال صنديد (مستشار لمجلس الوزراء الكويتي وأستاذ جامعي وشاعر مقيم في الكويت)

انتهت الانتخابات البلدية في لبنان حتى قبل بدايتها... فاز فيها من فاز وخسر من خسر، والكلّ تعهّد -ولو من باب الزجل الديمقراطي- أن يخدم بلدته بكافة مكوناتها من أي موقع كان. وعلى الرغم من أن هذه الانتخابات تشبه بالشكل غيرها من الانتخابات السابقة، الا انها تستدعي في مضمونها بعض القراءات التي تنتقل بتفاصيل هذا الحدث من الحيز القروي الى الصعيد الوطني، ومن نطاق الخدمات المحلية الى نطاق السياسة العامة.

فكما سبق وتوقعت، ورغم كل ما أثاره البعض من أقاويل وشكوك تدفع باتجاه تأجيل الانتخابات البلدية، فقد أجريت العملية الانتخابية وتمّت دون أي حدث أمني يذكر حتى في مدينة عرسال التي صوّت فيها أكثر من 58% ممن يملكون حق الاقتراع والتي كان الوضع الأمني المتأرجح في محيطها من الذرائع الأساسية التي استخدمت لتأجيل الانتخابات النيابية بهتاناً وزوراً ورغم ارادة الناس. فأهل "العقد والحل" من سياسيي لبنان كانوا يعرفون تماماً بأن ما يقال عن واقع الانفلات الأمني لن يؤثر على الانتخابية النيابية المؤجلة، كما أنه بالطبع لم يؤثر على الانتخابات البلدية التي دفعوا باتجاه حصولها. أهل السلطة بيمينهم ويسارهم – إن صحّ القول- ومن شمال الوطن الى جنوبه ومن شرقه الى غربه اتفقوا على ضرورة وجود حقل اختبار يقيسون فيه أحجامهم بأقل ضحايا منهم. وكانت هذه الانتخابات بتحالفاتها السياسية المتوقّعة والمستغربة والمستهجنة مقدمة للانتخابات النيابية القادمة! وإن كان هذا الواقع ما زال ضبابياً لدى البعض، فليسمع كل تصريحات السياسيين الذين تدخلوا بقوة في هذه الانتخابات –المحلية- ليدعونا ويدعوا مناصريهم الى قراءتها بالشكل الصحيح.

إن الانتخابات البلدية كانت مقدمة متوقعة لترويج الانتخابات النيابية التي ستجري وفقاً لقانون "الستين" معدّلاً ببعض التحسينات التجميلية كالاعتماد الجزئي على النسبية التي لا يسمح لها بأن تغيّر بشكل كبير واقع الخريطة السياسية والطائفية والمذهبية اللبنانية. فبمجرد انتهاء المرحلة الأولى من هذه الانتخابات بدأ الترويج الإعلامي والسياسي من كافة أطياف المروحة السياسية اللبنانية لسقوط المبرر الأمني لتأجيل الانتخابات! وقد بدأ المنظّرون الدستوريون التابعون لهذا الطرف أو ذاك بتفنيد قرار المجلس الدستوري الخاص بتمديد الانتخابات النيابية بحيثياته وبفقرته الحكمية، ليستنتجوا-عن حق- وجود ضرورة دستورية وواقعية لإجراء الانتخابات النيابية بأسرع وقت ممكن، وذلك لسقوط كل الحجج الواهية التي استند اليها ما عرف بقانون "التمديد" للمجلس النيابي.

قد يسأل سائل عن الحماسة المستجدة لدى الطبقة السياسية لاجراء انتخابات نيابية اتفقوا جميعاً على تأجيلها رغم ما أظهروه ويظهروه من اختلاف، وأحياناً من عداوة، في السياسة! الأمر يتضح جلياً عند ربط الموضوع بالانتخابات الرئاسية وبالتغيرات الاقليمية. فالتيار الوطني الحرّ، المتأمّل بحصول مؤسسه على كرسي الرئاسة، يسابق الزمن للاستفادة من التفاهم "العوني-القواتي" الذي يعتبره خشبة خلاص من معضلة تشتت الأكثرية المسيحية بين ثنائية اختلفت فيما بينها عسكرياً وسياسياً. كما أن تيار المستقبل أعلن أكثر من مرة استعداده لخوض الانتخابات النيابية الأمر الذي تعززّ بالدعم السعودي لعودة رئيسه الى الحياة السياسية اللبنانية بشخصه وليس من وراء الحدود. يبقى موقف حزب الله الذي يعتبر مفصلياً في الحياة السياسية اللبنانية والإقليمية بالطبع ؛ فبعد أن اطمأن نسبياً الى بقاء النظام السوري وتيقّن من مسار القتال الذي يقوده خارج الحدود اللبنانية، بدأ الحزب بالالتفات تدريجياً الى الداخل اللبناني ليبدأ معاركه الصغيرة في السياسة تمهيداً لانتصار يعززّ مكانته الداخلية والخارجية.

إن التدخل السياسي في الانتخابات المحلية ليس عيباً بذاته من الناحية النظرية طالما كانت الأحزاب عابرة للطوائف وتتنافس فيما بينها على برامج وطنية ومحلية، ولكن في الحالة اللبنانية لا أحد يستطيع أن ينكر أن معظم التدخل السياسي وما يرافقه من حشد وتحريض لا يمكن تصنيفه الا في خانة المصلحة الضيقة للأحزاب الطائفية والمصلحة الشخصية للمستفيدين منها والقائمين عليها.

لقد شهدت هذه الانتخابات التي يفترض انها محلية جهوداً كبيرة من الأحزاب المسيحية – ولا سيما من التيار الوطني الحر- لحث المسيحيين على الاقتراع واستعادة دورهم في اللعبة الديمقراطية واسترجاع مقدرتهم على التأثير السياسي، الأمر الذي نجح ولاسيما في بيروت وجزين وبالطبع في كسروان وجونية معقل مسيحيي لبنان. ولا شك في أن هذا الأمر يعدّ من مكاسب الديمقراطية لاستعادة الدور المسيحي الأصيل في لبنان، الا أنه يبقى في جميع الأحوال محاولة "عونية" للانطلاق من الفوز بمعظم "الكراسي البلدية" للوصول الى "كرسي" الجمهورية.

ليس أدلّ على كل ما سبق من انتخابات قضاء جزين حيث نجحت الانتخابات النيابية الفرعية بإيصال أول نائب منتخب الى الندوة البرلمانية بلون ونكهة "برتقالية"، وحيث برزت التحالفات النيابية والبلدية لمحاولة تكريس ائتلاف الثنائية المسيحية واختبار نجاحها تمهيداً لتعميمها على مساحة الوطن في الانتخابات النيابية والرئاسية. كما أن لانتخابات مدينة "زحلة" دلالات في هذا الاتجاه حيث تحالفت الأحزاب "المسيحية" لإسقاط النفوذ التاريخي لآل "سكاف" على عاصمة محافظة البقاع و"عاصمة كاثوليك المشرق".

وفي نفس السياق، فإن انتخابات زحلة وبيروت -كما انتخابات كل المدن والقرى- تؤكد ضرورة العمل الجدّي والسريع على اصلاح النظام الانتخابي والدفع به الى اعتماد النسبية حيث لا يحرم 49 % من المصوّتين من الحق بالتمثل في الندوة البرلمانية والمجالس المحلّية، كما ان هذه الانتخابات في المدينتين أشارت بشكل واضح الى أن تحالف كل "أحزاب السلطة" ضد مرشحي العائلات والتيار المدني لم يعد كما السابق بمثابة "محدلة" تكتسح الخصوم في السياسة والانتخابات. فلم تستطع لائحة الأحزاب المتحالفة في زحلة أن تفوز الا بفارق ضئيل على اللائحتين المتنافستين. وكذلك الأمر في بيروت، فرغم الفوز الكامل "للائحة البيارتة" المدعومة من تيار المستقبل وتحالفاته السياسية، اعتبر كثير من المحللين أن فوز هذه اللائحة كان انتصاراً بطعم الهزيمة بينما عرفت اللائحة المنافسة "بيروت مدينتي" خسارة بطعم الانتصار، حيث تشير الأرقام الى حصول اللائحة الخاسرة على أكثر من 40 % من أصوات المقترعين الذين لم يتجاوزوا نسبة الـ 20 % ممن لهم حق الاقتراع، وذلك رغم كل الحشد السياسي الذي سبق ورافق اليوم الانتخابي.

يسجّل لهذه الانتخابات أنها ولأول مرة عرّفت الشعب اللبناني على لوائح جدّية ومنافسة تشكّلت حيناً من العائلات وأحياناً من الناشطين السياسيين والمنتمين الى المجتمع المدني غير المتمثل بالسلطة، مقابل لوائح شكلتها التحالفات الظرفية للأحزاب السياسية المشاركة في الحكم. هذا الواقع الجديد يدعو الجميع الى اعادة حساباته ؛ فأحزاب السلطة يجب أن تعي أن الشعب اللبناني لم يعد نسبياً كما كان في السابق، وأن الجيل الجديد يمكن أن يكون في المستقبل القريب لاعباً رئيسياً في مسرحية جدّية اسمها "العيال كبرت". وبالمقابل فان الشعب اللبناني، ورغم بصيص الأمل الذي ظهر هنا أو هناك، يجب أن يتعلّم من فشله بإحداث تغيير كان مفترضاً ومنطقياً من شعب لا يجوز له أن يكون قد نسي رائحة النفايات التي ما زالت تعشعش في بيوته وملابسه وأجساد أطفاله، دون أن تساهم بشكل فاعل وجدّي أي سلطات محلية أو سياسية في حل أزمته التي تسأل الطبقة السياسية كاملة عن وجودها وعن العجز في ايجاد الحلول المناسبة لها. إن غياب حوالي٨٠٪ ممن لهم حق الاقتراع في بيروت عن واجب الادلاء بأصواتهم، وذلك بداعي السفر أو الخروج القسري من العاصمة أو بسبب احجام ناتج عن "قرف" مزمن من الوضع السياسي العام، له دلالاته التي تتشابه في معظم المناطق اللبنانية، حيث ترسّخ في منطق اللبناني أنه غير قادر على مجابهة فساد المال والسلطة، وأنه أعجز من مواجهة تحالفهما، فانكفأ مشاهداً ومتحسّراً ولاعناً... دون أن يعترف لنفسه بقدرة التغيير والمحاسبة ولو تدريجياً.

لا يمكن ان تكتمل صورة القراءة الواقعية للانتخابات البلدية دون الاشارة الى سيكولوجيا الشعب اللبناني المتمثلة بمقاربته الفريدة للعملية الانتخابية ولصراعات الوصول الى الكرسي. وفي هذا السياق تبرز ثلاثة مشاهدات لا يمكن اغفالها نظراً لخطورتها على نمط تفكير اللبناني وطريقة تصرفه وتفاعله مع الأحداث المؤثرة في مستقبله ومستقبل أولاده.

فبقدر ما تمثّل التبعية السياسية وتمجيد القائد والزعيم من آفات وارتدادات سلبية على الواقع المعيشي والسياسي للبنانيين، فان التعصب العائلي والعشائري والمذهبي الذي يهيمن على كل انتخابات بلدية أو نيابية ما هو الا صورة أخرى عن اعتياد الفرد اللبناني على قوقعة التعصب الجماعي وايمانه بنظرية "انصر أخاك ظالماً أو ظالماً"!. يضاف الى ذلك وجود نرجسية لبنانية اسمها عشق الكرسي والنشوة بالألقاب ؛ فقد شهدت هذه الانتخابات في أكثر من مدينة وقرية عودة بعض المغتربين المقيمين في الخارج الى أرض الوطن بهدف الحصول على لقب "ريّس" الذي ربما يؤمن لهم "بريستيجاً" اجتماعياً لم ينالوه بعد لا في مخيلتهم ولا في مجتماعاتهم رغم ما قد سجلوه من نجاحات مهنية أو مادية في مغترباتهم. تبقى الإشارة الى واقع ملفت في تسمية اللوائح الانتخابية في أكثر من مدينة وقرية مهمة، حيث تكررت عبارة "بيروت مدينتي" في نسخات محلية مختلفة، الأمر الذي قد يدلل على نجاح تجربة هذه اللائحة في بيروت والرغبة في استنساخها في المناطق، أو أنه قد يدلل بالعكس على غياب الابتكار لبرامج ولأسماء جديدة تخاطب الواقع المحلي لكل قرية أو مدينة معنية.

على أمل يكون العام 2016 الذي جاء بمجالس بلدية جديدة عاماً يشهد انتخابات رئاسية وبرلمانية يتعطش اليها اللبنانيون منذ فترة، وأن تكون الانتخابات التي يشهدها هذا العام بداية نهاية الأزمات السياسية المتكررة في هذا البلد الذي أخشى أن تتكرس فيه وفينا مقولة أنه لا يستحقه شعبه.