هنا رفيق الحريري
كتبَ جمبل فتفت:
حين قالوا لي أنّك رحلت، ركضت باحثاً عن
أحدٍ يقول لي حقيقة ما جرى..
ركضت باحثاً في عيون الناس عن أحد يكذّب
هذا الخبر.. عن أحدٍ ما يقول ”لا، رفيق الحريري لم يمت بل جراحه طفيفة وسيطل علينا
بعد حين..”
ولكن هذا ما لم يحدث..
ركضت يومها، ولا أدري لماذا، مصمّماً على
المشاركة في تشييع رفيق الحريري منفعلاً غاضباً حابساً دموعي وحسرتي وغضبي..
نسيت نفسي وحاولت جاهداً الوصول بين الحشود لألقي عليك نظرة الوداع..
وأيّ وداع..
صدقوا حين قالوا: أسوأ لحظات لحظات الوداع.. فكيف إذا كان وداع رفيق الحريري؟
قتلوه.. وقبل ذلك خوّنوه، شتموه.. حاولوا
إزاحته، حصاره، إنهاءه..
والنتيجة: هنا رفيق الحريري.. يرقد في قبره شامخاً مبتسماً في وسط المدينة
الأحب، ينظر يميناً وشمالاً ًويقول بحسرة: “يا ليتني عجّلت أكثر في عودتي إلى
لبنان لأستطيع بناء المزيد وإعمار المزيد..”.
حين أتانا نبأ تعرض موكب رفيق الحريري للتفجير، قال لي عجوز: “لبنان خسر رفيق الحريري، ورفيق الحريري ربح لبنان”..
وبالطبع لم أكن بإستطاعتي التفكير بجملةٍ
معقّدة كهذه في ذلك الوقت العصيب..
ولكن، مرّت السنوات الأولى والثانية
والرابعة والثامنة وأتت التاسعة.. ولبنان يبكي رفيق الحريري كل عامٍ أكثر.. فهو
الذي أعاد له الحياة، ونفض عنه غبار البأس، ورسم بهجة الإعمار على شفاهه..
والمقابل.. لا مقابل سوى لبنان..
ومع كل سنة تمر، كنت أدرك ما قاله لي ذاك الشيخ العجوز، وأدرك لماذا ركضت يوم التشييع محاولاً إلقاء نظرة الوداع... عقلي أدرك ما لم يدركه قلبي، حينها سرقتني العاطفة بعيداً وسلبت مني تفكيري.. بينما عقلي، ومثله مثل الكثيرين، حلم بكذبة رحيلك..
في كل ذكرى كنت أخاف الوقوف أمام ضريحك..
وإذا وقفت أتأمل إبتسامتك.. أخاف إن وقفت أن أشعر ليومٍ أنك رحلت.. أخاف أن أدير ظهري ولا أعود..
وسأصارحك.. أخاف أن أقف أمامك لأنني مدرك أنك ستعاتبني وستلومني وربما تنهرني..
ستسألني عن لبنان ولن أملك القوة لأقول تيتّم من بعدك..
ستسألني عن معشوقتك بيروت وسأستحي أن أقول أنّها شاخت وكبرت حين رحلت..
ستسألني عن العلم والثقافة والمعرفة والشباب والطموح والأحلام ولا أدري ماذا أجيب..
ستسألني عن الجنوب والبقاع والشمال وأخاف أن أقول لك أنّنا أصبحنا أشبه بدويلات داخل الدولة..
وأخاف إن سألتني عن رفاقك أن أقول أن بعضهم لحقك في درب الشهادة.. أخاف من أسئلتك لأنني لا أملك الجواب..
أملك فقط جواباً واحداً: نفتقدك كل عام أكثر!
يا لجهلهم، ظنّوا أنّ رفيق الحريري يمكن أن يموت...
ويا لجهلنا، ففي كل عام نحمل أقلامنا ظناً منّا أنّنا نستطيع الكتابة عن رفيق الحريري...