عندما يتناسى الشّعب قيمة السّيادة الوطنية... -بقلم: السفير هشام حمدان
*إنه المقال الأول من ضمن سلسة مقالات يعدها السفير السابق الدكتور هشام حمدان حول "بناء السلم بعد النزاع في لبنان" سوف ننشرها تباعاً
كتب السفير حمدان:
أنكبّ حاليّاً على إعداد بحث حول "بناء السّلم بعد النّزاع في لبنان". كثيرون في لبنان لا يفقهون ما يعنيه هذا العنوان. لا عجب. اللّبنانيّون لا يعلمون كثيرا عن التّطوّرات التي شهدها المجتمع الدّولي بعد سقوط الإتّحاد السّوفياتي ونهاية الحرب الباردة. وقد كان هذا العنوان الذي برز عام 1994 عندما قدّم الأمين العام للأمم المتّحدة بطرس غالي تقريره إلى مجلس الأمن بناء لطلب هذا الأخير، من المبادئ الأساسيّة لحفظ الأمن والسّلم الدّوليّين في العالم. كلّ بلد تعرّض للحروب مثل لبنان هو بحاجة إلى برنامج خاصّ لمساعدته في إعادة بناء السّلام فيه. وكلّ برنامج لا بدّ أن ينظر أولا في موجبات إعادة الوحدة الوطنيّة والمصالحة بين الناس التي تُعتبر المدخل لأيّ إصلاح ناجح.
وفي هذا الإطار، سعيت إلى البحث بعمق الأسباب التي تباعد بين اللبنانيين. قرأت العديد من الوثائق المتعلّقة بمعاناة لبنان منذ عام 1968، وخاصة بعد توقيع اتّفاق القاهرة عام 1969، فاستوقفتني المعلومات الكثيرة التي اطّلعت عليها، وأحزنتني كثيرا. تبّين لي بوضوح أنّ مشكلة لبنان الأساسيّة، هي في خسارة شعبه لسيادته وحرّية قرارا. شعرت بأهميّة ما طالبنا به في ملتقانا "من أجل العدالة للبنان وشعبه"، بغية رفع شعار وطنيّ عام، يرسم لبنان وشعبه كضحايا. نحن فعلاً ضحايا. فقد نشأت معاناة لبنان بعدما تحوّل إلى ساحة للصّراع العربي العربي، والعربي الدّولي، والدّولي الدّولي، بكلّ ما يتّصل بالقضيّة الفلسطينيّة.
يعتقد كثيرون أنّ المشكلة في لبنان تتصل بالنّظام الطّائفي الذي كان قائماً منذ استقلاله. هذا غير صحيح. فنهوض اليسار اللّبناني في حينه والذي قاد النّضالات العماليّة، والفلاحيّة، والطالبية في إطار الحركة الوطنية اللّبنانية، لم يكن الشّاغل الذي شغل الدول الغربية وأيقظ الحرب الأهليّة في لبنان، وإنما ربطه هذه النّضالات بالمنطلق الإيديولوجي القومي، سواء بالتّعبير عن ميول إلى المعسكر الإشتراكيّ بقيادة الإتّحاد السّوفياتي، أو بالإنخراط في "الجبهة العربيّة المشاركة في الثّورة الفلسطينيّة". فكما قال الباحث صقر أبو فخر، فإنّ "النّضال الفلسطينيّ تداخل بنضال اليسار اللبناني، وتشابك معه في الموقف السّياسي، ووجدت منظّمة التّحرير الفلسطينيّة في اليسار اللّبناني والقوى الوطنية الأخرى الدّاعمة لها، حامياً لظهرها ولحضورها العسكري المسلّح في لبنان، ولعمليّاتها ضدّ إسرائيل".
وتشير الوثائق الرّسميّة الأميركيّة أيضا إلى ربط الأطراف اللّبنانيّة المسيحيّة لمطلب العلمنة المقدم من الجهة المقابلة، بالخوف على مسألة بقائها في لبنان. ففي حين إمتدحت الإدارة الأميركيّة المبادرة السّياسيّة السّوريّة لحلّ النّزاع في لبنان، أو ما سمّي ب"الوثيقة الدّستوريّة" لعام 1976، لاحظت أيضا، أنّ الراديكاليين (الحركة الوطنيّة اللّبنانيّة)، يريدون علمنة الدّولة، ممّا سيؤدّي إلى حرمان المسيحيّين من موقعهم ودفاعاتهم. ألأمر الذي رأته الأقلّيّة المسيحيّة تسليما لمواقعها، وتهديدا لوجودها، خاصّة مع غياب السّيادة، ومع تدفّق الأسلحة إلى الرّاديكالّيين من الخارج، لاسيّما من العراق وليبيا والإتّحاد السّوفياتي وإلى حدّ ما، من مصر.
كما أنّ قراءاتي تشير إلى أنّ عرفات لم يكن متحمّسا لبرنامج كمال جنبلاط السّياسي المحلّي، لكنّه كان بحاجة له من أجل تعزيز مكانته الإستقلاليّة بين الدّول العربيّة. فعرفات كان يعلم أنّ تسوية القضيّة الفلسطينيّة ليست ملكاً له وحده. فهذه القضيّة تحوّلت إلى بازار للمواقف السّياسيّة للدول العربيّة، وخاصة بعد قيام الكفاح الفلسطينيّ المسلّح، ونمو العامل الفدائيّ، وبروز ظاهرة تعدّد التّنظيمات الفدائيّة. وكان التّدخّل العربي في الشّأن الفلسطيني يزداد مع تقدّم القرار السّياسي الفلسطيني ألهادف إلى تكريس إستقلاليّة منظّمة التّحرير عن الأنظّمة العربيّة، وحصولها على الإعتراف بها كممثّل شرعيّ ووحيد للشّعب الفلسطيني. عرفات كان يجد في الحركة الوطنيّة والسّيد جنبلاط داعمين أساسييّن لتحرّكه الإستقلالي. فكمال جنبلاط نفسه كان إستقلاليّا، ولم يقبل أن يخضع لسطلة دولة عربيّة، بما في ذلك سوريا. لذلك، فإنّ العلاقة مع جنبلاط كانت بالنّسبة إليه ثمينة جدّا.
كما أنّ السيّد ياسر عرفات كان يعرف جيّدا ألمخاطر الكبيرة التي ستنجم عن الإنزلاق إلى حرب أهليّة في لبنان، فأقام علاقات مكشوفة مع الرّئيس سليمان فرنجيّه، ثمّ مع الرّئيس كميل شمعون، والشّيخ بيار الجميّل، وغيرهم من الأقطاب المسيحيّة. وأقام أقنية سرّيّة وعلنيّة للتّواصل مع هؤلاء جميعا. لكنّه لم يقبل بمطلبهم السّيادي. فالبنّسبة إليه، لم يكن لبنان قاعدة سياسيّة وإعلاميّة فقط كما عرض دائما هؤلاء القادة عليه، بل هو أراد جعل لبنان قاعدة عسكريّة تمنحه أوراقاً قويّة عندما يحين تسوية القضيّة الفلسطينيّة، وهذا الأمر كان مرفوضا.
وبالمقابل، فإنّ جنبلاط لم يكن متحمّساً كثيرا للعمليّات الفدائيّة عبر الحدود اللّبنانيّة. وهو كان يرتاح ضمناً لدعوة ريمون إدّه إلى حياد لبنان. بل أعرب في حديث إعلاميّ عقب العمليّة الفدائيّة في الخالصة (كريات شمونة) عام 1974، أنّه يفضّل أن تقوم الأعمال الفدائيّة من داخل فلسطين وبعيدا عن الحدود اللّبنانيّة. غير أنّه رأى في عرفات المعين له في مسعاه المطلبي لتغيير النّظام السّياسي القائم في لبنان، لذلك تغاضى عن العمليات الفدائيّة، وتجاهل موضوع السّيادة.
لا السيّد عرفات ولا السيّد جنبلاط إنتبها إلى المعنى العميق لعبارات الشّيخ بيار الجميّل التي أطلقها في بدايات النّزاع اللّبناني الفلسطيني، حين وجه نداءً نبّه فيه إلى " أنّ استباحة سيادة لبنان تهدّد الوحدة الوطنيّة، وبقاء لبنان. وتساءل فيه "عن معنى ما نصّت عليه المواثيق العربيّة نفسها، في قلب الجامعة العربيّة، من شروط وأصول وموجبات لدخول جيش عربي نظامي إلى أيّ بلد عربي، إذا كان هذا البلد يجب، خارج إطار الجامعة، أن يبيح لعمل فدائي غير منظّم وغير مسؤول، أن يدخل إلى أرضه بصورة غير شرعيّة على مرأى ومسمع من سلطاته وجميع بنيه". وقال: " لا مبرّر للدّخول والبقاء في الأسرة العربيّة والدّوليّة بدون سيادة". وذكّر بالبيان الوزاري الأوّل للرئيس رياض الصلح الذي قال فيه: " إنّ الحكومة ستُقبل على إقامة العلاقات مع الدّول العربيّة إنطلاقا من موقع لبنان الجغرافي، ولغة قومه، وثقافته، وتاريخه، وظروفه الإقتصاديّة، ولكن على أسس متينة تكفل إحترام الدّول العربيّة لإستقلال لبنان وسيادته التّامة، وسلامة حدوده الحاضرة. فلبنان وطن ذو وجه عربيّ، يستسيغ الخير النافع من حضارة الغرب".
ذهب الفلسطينيّ وجاء السوري. ثمّ ذهب السوري وجاء الإيراني. ولا بدّ أن يذهب الإيراني عاجلاً أم آجلا. لكن، هل من الضّروري أن يأتي بديل له لكي نتخلص منه؟ أكثر من خمسين سنة مرّت على هذه الأحداث، وما زال معظم شعبنا يتناسى، بل ويستمرّ في تمزيق السّيادة. ما زال قسم كبير ينظر إلى السّيادة نظرة إيديولوجيّة، بعضهم من منطلق قوميّ (عربيّ أو سوريّ)، وآخر من منطلق طائفيّ. لذلك يستمرّ لبنان ساحة للصّراع القائم من حوله.
لا بناء للسّلام في لبنان من دون وحدتنا الوطنيّة ومصالحة حقيقيّة بيننا. ولا مصالحة ووحدة وطنيّة خارج السّيادة الوطنيّة، وحرّية القرار الوطني. ألخروج من هذه الحالة، يعني قبل كل شيء قيام جبهة سياديّة. كلّ لبنانيّ مخلص للبنان عليه موجب الإنضمام إلى هذه الجبهة السّياديّة. توقّفوا عن نبش الملفات الدّاخليّة وابحثوا أوّلا عن حرّية القرار الوطني.
*موقع "جبلنا ماغازين" لا يتبنى أي موقف سياسي يتم التعبير عنه عبر صفحاته من خلال المقابلات والأخبار التي ينشرها، بل هي تعبر حصراً عن مواقف أصحابها