Follow us


لبنان 1970 ولبنان 2019... أوجه شَبه، ومحاذير! -بقلم: الياس كساب

بقلم: الياس كسّاب 

(الرئيس العالمي السابق للجامعة اللبنانية الثقافية في العالم)

لبنان سنة ١٩٧٠، سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية اللبنانية، عُدَّ ذلك انتصاراً على أجهزة "المكتب الثاني" التي أمعنت تنكيلاً بالحريات السياسية، والفكرية، والإعلامية، بعدَ أن خرجت عن "الشهابية" الأساسية، لتُسمّى آنذاك بـ "النهج"، خاصّةً وأنّ الرئيس شارل حلو كان مُستَضعفاً من قبل القيمين على تلك الأجهزة.

وقد رحّبَ اللبنانيون بانتخاب الرئيس فرنجية، وبانتصار المعارضة على "النهج"، مدعوماً من الحلف الثلاثي الماروني آنذاك، توسُّماً بانبزاغ فجرٍ جديد، واعتُبِرَ الانتصار، بصوت واحد فقط، انتصاراً للديمقراطية. وقدّمَ الرئيس فرنجية نفسه على أنه "الرئيس القوي"، وخاطب اللبنانيين قائلاً: "ناموا وأبوابكم مفتوحة".

وما أشبه اليوم بالأمس، حين انتُخِبَ الرئيس عون، وأُريدَ له أن يتسمّى بـ "الرئيس القوي"، مدعوماً من غالبيّةٍ نيابيّةٍ كبيرةٍ هذه المرة، ومن "التحالف الثنائي"، الذي، على قاعدة "أوعا خيّك"،  أمّنَ الغطاء المسيحي أيضاً للعهد الجديد، بأملٍ معقودٍ بتغييرٍ نحو الأفضل.

ماذا كان في الشارع يوم انتخب الرئيس فرنجية؟ وماذا في الشارع اللبناني اليوم؟ دعونا نقارن!

١٩٧٠، لبنان يرزح تحت بنود اتفاقية القاهرة، (وُقِّعتْ سنة ١٩٦٩)، التي بموجبها أسست "فتح لاند"، وجُعِلَ العرقوب مقرّاً وممراً للعمل الفدائي الفلسطيني، وذلك تحت وطأةِ الشارع اللبناني والعربي الغاضب نتيجة نكسة ٥ حزيران ١٩٦٧، وبدت الثورة الفلسطينية للكثيرين أملاً بفجرٍ عربيٍّ جديد، قبل أن "تتوزع" سفارات الدول العربية والشيوعية، المنظمات الفلسطينية، من فتح، وجبهة شعبية، وجبهة عربية، وصاعقة.... وتغدق عليها المال والسلاح، وما أدى ذلك من سيطرة على الدولة والوطن، وإذا ما اعترض معترضٌ في لبنان، جوبه بـ "قدسية السلاح".. ولن نطيل هنا، فكلكم يعرف نتيجة ما حصل بعد ذلك، حيث دخلنا الحرب الأهلية اللبنانية المشؤوم سنة ١٩٧٥، وجعلنا بلادنا ساحةً للاحتلالين: السوري، والإسرائيلي فيما بعد..

واليوم، في سنة ٢٠١٩، ما زلنا في هذه البقعة من لبنان، أيٍّ في جنوبه، وتحت إعادة إحياء "قدسية القضية" أعدنا إلى الساحة السياسية اللبنانية "قدسية السلاح"، وكأننا، في حسِّنا الوطني الباطني، ما زلنا بحاجة لأنّ ننتقم لكرامة "الأمة" المنكوبة، ولو بسيطرةٍ خارجيّةٍ، سلاحاً، ومالاً، ونفوذاً يُصرَفُ تدخلاً مباشراً في الديمقراطية اللبنانية الهزيلة. هذا السلاح الذي ما زال موضع خلاف بين اللبنانيين، بين مؤيدٍ ومعارض، بين داعٍ لثلاثية الشعب والجيش والمقاومة، وبين مُطالبٍ باستراتيجيةٍ دفاعيّةٍ لحصريّة السلاح بيد الجيش والقوى الأمنية، ووضع الأمرة بيد الدولة. فأعدنا مشكلة السلاح إلى الجنوب، وهنا تكمن بالتحديد مسؤولية أهل المقاومة، وهم أبناء لبنان، ونسيجٌ أساسيٌّ فيه ساهم إلى حدٍّ بعيدٍ في استقلال لبنان الكبير، والذي نحتفل بمؤيّته هذه السنة، وبيده وحده أن لا ينكفئ هذا السلاح إلى زاويةٍ طائفيّةٍ حادّةٍ تجرُّ الويلات عليه وعلى لبنان..

في ١٩٧٠، بدت الثورة الطلابية على أشدها، عابرةً للمناطق وللطوائف، مدعومةً بتنظيماتٍ طلابية حزبيّةٍ، يميناً ويساراً، ورغم اختلاف وجهات النظر حول "العمل الفدائي" آنذاك، إلا أنّ المطالب الطلابية من تعديل للمناهج، وتقوية للتعليم الرسمي، وتعزيز للجامعة اللبنانية الوطنية، وخلق كليات تطبيقية فيها، والنضال من أجل تكافؤ الفرص.. كلها مطالب وحّدت النضال الطالبي، فَفُرِضت الانتخابات الطالبية في المدارس والجامعات، حيث تجلت الحياة الديمقراطية بأبهى حللها، وتشارك الجميع في المظاهرات الضخمة، وفي المظاهرات الطيّارة الخاطفة التي كانت تربك القوى الأمنية، يضاف إلى ذلك انتفاضة النقابات العمالية لتحسين الرواتب، وفي سبيل العدالة الاجتماعية، وبدت حركة الشباب، بالرغم من مشاركة الأحزاب، حركةً مدنيّةً متضامنةً، واعِدةً، تُبشِّرُ بالخير، خاصّةً بعد زوال "حكم الأجهزة"، وبدء، ما اعتبر آنذاك، زمن الحرية. هذه الثورة الطلابية تشبهت وتأثرت بالثورة الطلابية الفرنسية سنة ١٩٦٨ التي استطاعت أن تخرجَ الجنرال ديغول من الحكم، وأن تفرض مطالبها على المستويين: المجتمعي، والسياسي في فرنسا. لقد استطاع طلاب لبنان سنة ١٩٧٠، أن يخلع الحزبيون منهم ثوب أحزابهم، وأن يقوموا، مع غير الحزبيين، وهؤلاء كانوا الأكثرية، بثورتهم سويّةً، مُوَحّدين حول مطالبهم، تماماً كما يحصل اليوم في ثورة اللبنانيين المدنية.

سنة ١٩٧٠، أدرك الإقطاع السياسي خطورة ثورة الطلاب والعمال والجياع، فأرادوا امتصاص نقمة الناس على السياسيين، فكلف الرئيس فرنجية صائب سلام لتشكيل حكومة العهد الأولى، فشكل سلام "حكومة الشباب"، من تكنوقراط، غير سياسيين، وصدرت مراسيم الحكومة في ١٣ تشرين الأول ١٩٧٠، وتألفت من وجوه مثقفة ومتخصصة وشابة، وجديدة في العمل السياسي، من أمثال: هنري إده، صائب جارودي، جميل كبي، حسن مشرّفيه، خليل أبو حمد، أدوار صوما الذي كان رئيساً لمنظمة الأغذية والزراعة الدولية، الياس سابا، إميل بيطار، منير حمدان، جعفر شرف الدين، والوحيد الذي كان مشهوراً ومعروفاً في التشكيلة من اللبنانيين هو الصحافي غسان التويني، صاحب "النهار"، ورمز معركة الحريات ضد الشهابية السياسية، ومقرّبٌ من الحركات الشبابية والطلابية، كون "النهار"، وفي ملحقها الأسبوعي، أفردت ملحقاً خاصاً للشباب، وجعلت في جريدتها صفحةً طلابيّةً يوميّةً، فاعتُبِرَ مجيئُ التويني آنذاك، كنائبٍ لرئيس الوزراء، وكوزيرٍ للأنباء من جهة، ووزيرٍ للتربية من جهةٍ أخرى، انفتاحاً على المطالب الشبابية والطلابية.

سنة ٢٠١٩، هذا ما تتوقعه الثورة اللبنانية الجديدة: حكومة تكنوقراط، مستقلة، ومن أصحاب الكفاءات؟! وصدقوني، إن تشكلت حكومة تكنوقراط اليوم لن تجدوا فيها أفضل من هذه الأسماء الرائعة التي تعمّدتُ ذكرَها من حكومة "الشباب"!

ولكن، على هذه الثورة أنّ تتعلم من تجارب جيلنا، لأن ميكياڤيلية السياسيين اللبنانيين أخطر من أنّ نركن إليهم. إنهم بارعون بالكذب، ماهرون في نشر الوعود، ماكرون، دجّالونَ مُراؤون، سوف يرمون الثوار في النار، ومن ثمَّ يلومونهم، إنهم ورثةُ نيرون، أعمتهم التخمة، وأعياهم جُنونُ العَظَمة، فلن يروا في شباب الثورة إلا وُقوداً لغرائزهم، ولِشَبَقِهم للسلطة.

جيل السبعينات وقع ضحيةَ هذه الميكياڤيلية، فحكومة الشباب التكنوقراطية، والتي أحدثت صدمةً إيجابيةً في البدء، لم تستطع أنّ تواجه الفساد المستشري، لأنها استُعملت غِطاءً جميلاً وشعبيّاً لصفقاتهم المشبوهة، وبدت الدولة، التي أظهرت نفسها دولة حريّات، وانفتاح على الشباب، عاجزةً عن مواجهة الأمور الوطنية الأساسية، لأنّ دولةً تنازلت عن سيادتها، لم تعد سيدة نفسها، فتحوّلت "الحرية" و"القوة"، (شعارا عهد فرنجية)، إلى فوضى وضعف، فانعدمت ثقةُ الناس بالحكومة الشابة، فاستقالت في ٢٧ أيار ١٩٧٢، وهوى القناع، وأقيمت المتاريس السياسية، والتي أدت، فيما بعد، إلى أزمة حكم، وإلى متاريس عسكرية...

جيل ٢٠١٩ مُتَمكِّنٌ أكثر، ووسائلُ التواصلِ الاجتماعي جعلته حاضراً، واعياً، سريعَ التحرُّك، لا يستغبيه كذِب، ولا تنطلي عليه الدسائس. تذكروا، في السبعينات، لم يكن لدينا خيارٌ إعلاميّاً إلا إذاعة لبنان الرسمية وتلفزيون لبنان، وكان الملاذ الوحيد لنا بعضُ الإعلام الورقيِّ المكتوبِ والحُر، في وقتٍ كان معظم الإعلام المكتوب، من مجلات أسبوعية، أو صحف يومية، مُمَوّلاً من أعتى الديكتوريات العربية للأسف.

أقول للثوار: إحذروا، لا تناموا على حرير حكومةٍ تكنوقراطية، خيوطها بأيادي مشكليها!

ظروف لبنان سنة ٢٠١٩، هي نفسها ظروف لبنان سنة ١٩٧٠، ولا يمكن فصل القضايا الوطنية، والدفاعية، والسيادية، عن قضايا الحرية، والعدالة الاجتماعية، ومحاربة الفساد. لا تغُرَّنكم حكومة تكنوقراط، فهي وسيلة فقط، بل الأهداف هي الأساس، وعلى رأسها لبنان السيد الحر المستقل، العادل، يُطَبّق فيه فصل السلطات، وحيث نقضي فيه على الفساد والفاسدين، فنستعيد أموال الوطن المنهوبة.

لا تنجروا إلى العنف، لأنّ العنف انهزام العقل!

لا تنجروا إلى العنف، لأنه الشرك المنصوب لكم لجعلكم وقودًا لأتونهم، كما جعلونا سنة ١٩٧٥ وقوداً لحروبهم، فتدفع أجيالكم، كما دفعنا، الثمنَ غالياً من أرواحكم، ومستقبلكم، ومستقبل الأجيال القادمة من بعدكم.

وحدتكم هي الأساس، وعبوركم للطوائف والمناطق يبقى حصنَكم المنيع، فلا تسمحوا لهم، كما فعلنا نحن جيل السبعينات، أنّ يُقسموكم بين متاريسهم، فتضامنكم هو الوحيد مُدَمِّرُ هذه المتاريس، فامتدادُكم على مساحة الوطن أطاحت بالانقسامات العامودية التي زرعوها جُدراناً عاليةً بين اللبنانيين، لذلك، فإنّ ثورتكم هي الأمل الوحيد المنشود للمؤية الثانية للبنان الكبير، لبنان الجديد الخارج من الركام، كطائر الفينيق الذي جسدته إحدى فنانات الثورة في ساحة الشهداء من حُطامِ خِيمِ الحريّة.

لطالما ردّدتم، نساءً، وصبايا، وشباباً، عنوانَ ثورتكم: "سلميّة"، وهذا، لعمري، أمضى سلاح!

"سلمية" بوجه تجاوزات السلطة، وهذا ما حافظ على احترام الجيش والقوى الأمنية لكم، وحفظ لهذه القوى احترام اللبنانيين وتقديرهم، أو بوجه تجاوزات أنصارها، وهذا ما أجهض العبثَ المُتَنقِّلَ بالأمن، وجعلكم عماد السلم الأهلي!

سلميّةُ غاندي قضت على الأمبراطورية البريطانية في الهند، وسلميّةُ مانديلا قضت على أسوأ وأعنف نظام تمييزٍ عنصري في جنوب أفريقيا. وأنا أرى، في كل سيدةٍ من سيدات الشياح وعين الرمانة، والتباريس والخندق الغميق، ألفَ ألفَ غاندي، وألفَ ألفَ مانديلا.