الرئيس سليمان في العيد السبعين للاستقلال لبنان: لا لاستقلالِ بعض الأطراف عن منطق الدولة
أكد رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان أنه "يصعب الحديث عن الاستقلال، إذا ما عجزنا عن تنظيم الانتخابات النيابية وتشكيل حكومة جديدة، والجلوس من جديد الى طاولة الحوار من دون التنكر لما توافقنا عليه سابقا، أو إذا ما فشلنا العام المقبل في إجراء انتخابات رئاسية ضمن المهل الدستورية".
وشدد على أنه "لا يمكن أن تقوم دولة الاستقلال، إذا ما قررت أطراف أو جماعات لبنانية بعينها، الاستقلال عن منطق الدولة، أو إذا ما ارتضت الخروج عن التوافق الوطني، باتخاذ قرارات تسمح بتخطي الحدود والانخراط في نزاع مسلح على أرض دولة شقيقة، وتعريض الوحدة الوطنية والسلم الأهلي نفسه للخطر".
واهاب رئيس الجمهورية بأهل السياسة وأصحاب القرار، "عدم السماح بايصال البلاد إلى حال من الفراغ، في ظل مجلس نيابي ممدد له، وحكومة تصريف اعمال لا تمثل كافة اللبنانيين. ولا يدفعنكم أحد إلى المكابرة أو المغامرة في الشأن الوطني، فالمغامرة كالمقامرة لا تحسب حسابا للخسارة، ونحن شعب، لم يعد يتحمل عبء الخسائر المجانية والحروب العبثية والمجازفات".
ودعا "خلال الاشهر المقبلة التي تسبق الاستحقاق الرئاسي، الى التزام إعلان بعبدا من أجل تحييد لبنان عن التداعيات السلبية للأزمات الإقليمية، والانسحاب فورا من الصراع الدائر في سوريا، وإقرار قانون انتخاب عصري منصف جديد، والتوافق على آلية لتحصين نظامنا الدستوري وترشيد، وإقرار مشروع قانون حول اللامركزية الإدارية، وإقرار المراسيم الخاصة بالغاز والنفط، وتلبية احتياجات المواطنين، وانشاء الهيئة المستقلة للمخفيين قسرا والمفقودين".
مواقف الرئيس سليمان جاءت خلال الكلمة التي وجهها الى اللبنانيين لمناسبة الذكرى ال70 لاستقلال لبنان، من قصر بعبدا، في حضور المحافظين والقائمقامين ورؤساء اتحاد البلديات وعدد من الموظفين الاداريين والرسميين.
كلمة الرئيس سليمان
وألقى الرئيس سليمان الكلمة الآتية:
"أيها اللبنانيون، الذكرى السبعون لاستقلال لبنان، مناسبة للتوجه إلى الشعب،
مصدر السلطات، وهو الذي صنعت انتفاضته الاستقلال في العام 1943، وحققت مقاومته
التحرير في العام 2000، وأفضت ثورته البيضاء في العام 2005 إلى الانعتاق من
الوصاية والتبعية. إلا أن الأزمة الوطنية المستجدة، التي تشل عمل المؤسسات، ومعها
مصالح الناس، باتت تطرح أسئلة مقلقة حول حقيقة الاستقلال ومعانيه، وحول سلامة
الممارسة الديموقراطية في لبنان، ومدى قدرتنا على إدارة أنفسنا بأنفسنا، لا بل حول
طبيعة النظام، ومدى ملاءمته لتحقيق الخير العام.
والواقع المؤسف، أنه يصعب الحديث عن الاستقلال، إذا ما عجزنا عن تنظيم الانتخابات النيابية وتشكيل حكومة جديدة، والجلوس من جديد الى طاولة الحوار من دون التنكر لما توافقنا عليه سابقا، أو إذا ما فشلنا العام المقبل في إجراء انتخابات رئاسية ضمن المهل الدستورية. وقد جاءت موجة التفجيرات المخزية، وآخرها التفجير المدان الذي استهدف السفارة الايرانية وأدى الى قتل وجرح عشرات الأبرياء، ليؤكد ما بات يتهدد الوطن من مخاطر فتنة وإرهاب مستورد.
كذلك، لا يستقيم الاستقلال ويعتبر ناجزا، إذا ما استمرينا في ترسيخ الطائفية في النفوس، عوض تعزيز فكرة المواطنة ومنطق الولاء المطلق للوطن، وإذا لم ننجح في تحييد أنفسنا عن التداعيات السلبية للأزمات الإقليمية، من طريق رهن مصالح لبنان العليا بالمشيئة الإقليمية أو بالإملاءات والمصالح الخارجية.
ولا يمكن أن تقوم دولة الاستقلال، إذا ما قررت أطراف أو جماعات لبنانية بعينها، الاستقلال عن منطق الدولة، أو إذا ما ارتضت الخروج عن التوافق الوطني، باتخاذ قرارات تسمح بتخطي الحدود والانخراط في نزاع مسلح على أرض دولة شقيقة، وتعريض الوحدة الوطنية والسلم الأهلي للخطر.
كذلك لا يترسخ الاستقلال، إذا لم يستقل الشعب عن الفقر والعوز والتخلف والجهل والفساد، وإذا لم يتحقق الإنماء المتوازن للمناطق ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا، وإذا لم يستقل القضاء عن كل أوجه الترغيب والترهيب وما لم يتم التوقف عن ممارسة الضغوط عليه كما حصل في الآونة الأخيرة.
ولا يجدر الحديث عن الاستقلال، أيها اللبنانيون، إذا ما عجزت الدولة عن نشر سلطتها الحصرية على كامل تراب الوطن، وضبط البؤر الأمنية، وقمع المخالفات ومحاربة الإرهاب، وإذا لم تكن القوات المسلحة هي الممسكة الوحيدة بالسلاح والناظمة للقدرات الدفاعية باشراف السلطة السياسية.
وبالرغم من ذلك، فإن ذكرى الاستقلال، هي مناسبة للاضاءة على الواقع وسبل تحسينه، بإيمان متجدد وعزم أكيد، تحفزنا على ذلك قدرتنا على التأقلم والارتقاء، وعمق مشاعر التضامن والتعاضد، التي تشد اللبنانيين المقيمين والمنتشرين إلى بعضهم، وشبكات الصداقة والأمان والدعم، التي تمكنا من إقامتها على أكثر من صعيد.
لقد سعت الدولة جاهدة خلال السنوات المنصرمة لترسيخ دعائم الاستقلال. فنجحت أولا، في إقامة علاقات ديبلوماسية ناجزة مع سوريا، للمرة الأولى منذ الاستقلال. وعملت على تكريس نهج الحوار، خصوصا من خلال إنشاء "هيئة الحوار الوطني"، ورعاية التوافق حول "إعلان بعبدا"، الذي أكد أهمية تحييد لبنان، تحييدا إيجابيا لا يختصر بالنأي بالنفس، كما لا يرتقي إلى مرتبة الحياد.
وقد وضعت في تصرف هيئة الحوار واللبنانيين،
تصورا لاستراتيجية وطنية للدفاع، عمادها الجيش اللبناني، يقينا مني بأن مشكلة السلاح
عائق أمام مسيرة الوفاق الوطني، إذا لم تتوضح وظيفة هذا السلاح وعلاقته بالشرعية
وبالحكومة. مع العلم أننا حريصون على الاحتفاظ بكل قدراتنا الوطنية، في مواجهة
العدو الإسرائيلي ومكائده وشبكات تجسسه، دفاعا عن أرضنا وسيادتنا وثرواتنا
الطبيعية، مع مواصلة السعي لتنفيذ القرار 1701 بكل مندرجاته، بالتعاون مع قوات
اليونيفيل.
في موازاة ذلك، تقدمت الحكومة من المجلس
النيابي، بمشروع قانون جديد للانتخابات، يلحظ في جوهره مبدأ النسبية، وهو قانون،
سيسمح في حال إقراره، بكسر الإصطفافات السياسية وبنشوء أحزاب سياسية عابرة للطوائف،
وإعادة تكوين السلطة، وإعطاء دور وازن للمرأة، وضخ عناصر جديدة، شابة وحرة، إلى
مركزي التشريع وصنع القرار، من ضمن احترام مبدأ المناصفة والتمثيل الصحيح. كما قدم
سابقا مشروع مماثل للانتخابات البلدية وأطلقت خطط عمل وبرامج متنوعة تعنى بالشؤون
الصحية والاجتماعية والحياتية والبيئية وكل ما يتعلق بالمواطن الانسان.
وتم اعتماد آلية للتعيينات الإدارية على
قاعدة الكفاية والشفافية؛ تبناها مجلس الوزراء من دون ان يستسيغها الجميع.
كذلك، تم إنجاز نص متكامل لمشروع قانون حول
اللامركزية الإدارية، التي تعتبر شكلا أساسيا من أشكال تطوير النظام، وتحفيز النمو
المحلي والإنماء المناطقي المتوازن.
وبالمناسبة، أطلب من المواطنين، ومن رؤساء واعضاء الاتحادات والمجالس البلدية والاختيارية، والمسؤولين الاداريين الحاضرين اليوم في هذه القاعة، المشاركة عبر ابداء ملاحظاتهم على هذا المشروع الذي سننشره قريبا على موقع الكتروني خاص.
وقد تكون الهيئة التأديبية الخاصة بالبلديات التي انشأناها، خطوة لتنقية العمل البلدي وترشيده، لجهة المراقبة والشفافية والمحاسبة، والتزام القوانين والأنظمة، تمهيدا لاعتماد اللامركزية.
وقد أولينا جهدا خاصا، للتحرك الخارجي الواجب تجاه الدول الصديقة وعالم الانتشار، وصولا إلى مرحلة رئاسة مجلس الأمن الدولي، سعيا من قبلنا، لإعادة وضع لبنان على الخريطة الدولية، كدولة مستقلة لها سيادتها على سياستها الخارجية ووقاية وطننا شر المؤامرات والفتن، وتحسين شروط جذب المستثمرين إليه، ورفع نسب النمو، التي بلغت ثمانية في المئة قبل اندلاع الأزمة السورية.
وقد تجلت هذه الجهود الديبلوماسية، في الخامس والعشرين من أيلول الفائت، بإجماع الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، والأمانة العامة للأمم المتحدة، والبنك الدولي، والمفوضية العامة للاتحاد الأوروبي، والأمانة العامة لجامعة الدول العربية، على إنشاء "مجموعة دعم دولية للبنان"، صدر في نتيجة أعمالها جملة خلاصات، تهدف الى دعم استقرار لبنان واقتصاده وجيشه، والجهد القائم لمواجهة المشكلة المتفاقمة للاجئين السوريين على أراضيه.
وبإزاء القلق المتعاظم حيال معضلة اللاجئين، عملنا على عقد مؤتمر دولي في الكويت مطلع هذا العام، يهدف الى تقاسم الأعباء المالية، من منطلق المسؤولية الدولية المشتركة، وسيعقد مؤتمر ثان للدول المانحة، مطلع العام المقبل. وطالبنا في حينه، ولا نزال، بالمشاركة في تقاسم الأعداد، وبالعمل على توسيع أطر ومساحات إيواء النازحين داخل الأراضي السورية، وبالإسراع كذلك في إيجاد حل سياسي متوافق عليه للأزمة السورية، يسمح بعودة اللاجئين إلى أرضهم وديارهم؛ وقد اعتمدت هذه المبادئ في اجتماع جنيف.
وإذ سنواصل السعي الحثيث لضمان وضع مبادئ مجموعة الدعم الدولية وقراراتها موضع التنفيذ، فإني على يقين بأن الدولة اللبنانية، لن تتوانى عن النظر في اتخاذ أي قرار وطني وسيد، من شأنه إنقاذ لبنان من هذا الخطر الوجودي المحدق به، إذا ما توانى المجتمع الدولي عن القيام بواجبه، من منطلق المسؤولية المشتركة.
أيها اللبنانيون،
يوم الاستقلال، يوم لاختبار النيات
والإرادات، ولمدى حبنا وولائنا للبنان، ولعمق التزامنا بمصالحه العليا من دون
سواها، وللتأكيد من جديد، على ثوابتنا الوطنية وحرصنا على الوحدة الوطنية والعيش
المشترك. وإذا ما زالت الحاجة قائمة لبناء "دولة الاستقلال"، فإن التطورات
الاجتماعية العميقة، التي طرأت على المشهد اللبناني بفعل الحروب المتتالية
والانقسامات، باتت تفرض العمل بصورة ملحة وموازية، على بناء "مجتمع
الاستقلال"، أي مجتمع المعرفة والثقافة والفكر المستنير والعدالة والحرية
وحقوق الإنسان.
لذا، وأمام المأزق السياسي والوطني الذي تعاني منه البلاد، وخلال الاشهر التي تفصلنا عن الاستحقاق الرئاسي، وفي موازاة الجهد الذي سنبذله لتشكيل حكومة جديدة في أقرب الآجال، وامام المواطنين وممثليهم في المجالس البلدية واتحاداتها، اهيب بكم يا أهل السياسة وأصحاب القرار، عدم السماح بايصال البلاد إلى حال من الفراغ، في ظل مجلس نيابي ممدد له، وحكومة تصريف اعمال لا تمثل كافة اللبنانيين. ولا يدفعنكم أحد إلى المكابرة أو المغامرة في الشأن الوطني، فالمغامرة كالمقامرة لا تحسب حسابا للخسارة، ونحن شعب، لم يعد يتحمل عبء الخسائر المجانية والحروب العبثية والمجازفات.
أيها اللبنانيون،
في كلمتي الأخيرة إليكم في ذكرى، ومن موقع
المسؤولية الملقاة على عاتقي، ادعو كل فرد وطرف وشريك من شركاء الوطن للعودة إلى
الدولة وإلى منطق الدولة ومرجعية المؤسسات، والى المساهمة في المحافظة على استقلال
لبنان وعزته بالقول والفعل، والتزام القوانين وأحكام الدستور وروح الميثاق الوطني،
تلافيا للوقوع في منزلقات الفتنة والتشرذم.
أيها اللبنانيون،
يجب ألا تكون الاشهر التي تفصلنا عن
الاستحقاق الرئاسي اشهر مراوحة وانتظار، بل اشهر حراك سياسي وحوار وقرار، فالتزام
إعلان بعبدا من أجل تحييد لبنان عن التداعيات السلبية للأزمات الإقليمية،
والانسحاب فورا من الصراع الدائر في سوريا، وإقرار قانون انتخاب عصري منصف جديد،
والتوافق على آلية لتحصين نظامنا الدستوري وترشيده، كذلك إقرار مشروع قانون حول
اللامركزية الإدارية، تشكل مع تلبية احتياجات المواطنين الاجتماعية والمعيشية والصحية
منها وانشاء الهيئة المستقلة للمخفيين قسرا والمفقودين، عناوين رئيسية ومحفزة
للمرحلة المقبلة، ومشاريع برسم التنفيذ في خلال الشهور الآتية وما بعدها، من منطلق
التراكمية واستمرارية السلطة.
وإذ أدعوكم إلى الانضمام إلى هذه المسيرة، وإلى الجهد اللازم للمساهمة في بناء الدولة العادلة والقادرة، وصولا إلى الدولة المدنية والحديثة التي يطمح إليها جيل الشباب بشكل خاص، فإني على ثقة ويقين، بأن طبيعة النظام في لبنان وفلسفة كيانه وخصال اللبنانيين المطبوعين على الانفتاح والثقافة والحوار، لا تأتلف مع سياسات العزل أو الهيمنة أو القهر أو التطرف، أو مع أي فكر شمولي وأحادي رافض للآخر، وسيبقى لبنان، بعزمكم والتزامكم وتعاضدكم، ومجمل القدرات والكفايات التي يختزنها في الوطن ودنيا الانتشار، بلدا ديموقراطيا، سيدا، حرا، مستقلا، قويا ومزدهرا على ما نتمناه. عشتم، عاش لبنان".