Follow us

image

صرخة يطلقها من باريس الأديب والضابط المتقاعد عبدالله بركات: هل من جندي شجاع بينكم؟

صوتنا - جبلنا ماغازين

"لبنان في مأزقِ أزمةِ نظامٍ وانتظامٍ، ومنظومةٍ فاسدةٍ ومُفْسِدةٍ ووليدةٍ من رحمِ عدمِ التربيَّةِ الأخلاقيَّةِ، ورائدُها العمالةُ والعمولةُ".

بقلم:  الضابط المتقاعد عبداللّه حبيب بركات - باريس

أيّها اللبنانيّون، (جميعَ اللبنانيّين مدنيّين وعسكريّين)،

صرخةَ مواطنٍ أُطلقُها مُدَوِّيَةً على مسامعِ الجميعِ، الكبيرِ والصغيرِ والمُقَمَطِ بالسريرِ:

الوطنُ لبنانُ يُحتَضَرُ، ولبنانُ الكبيرُ قدْ صَغُرَ بِعينِ العالمِ بقدرِ صِغارِ النفوسِ الّذينَ صَغّروهُ على قدر مِقْيَاسِهِم ومقايّيسِهم.

لستُ هنا لأسديَ النُصْحَ والمشورةَ، فاللبنانيّون الجهابذةَ لَديهمْ من النظريّاتِ ما يستطيعونَ توزيعَهُ على العالمِ أجمعِ، لأنهم يعتبرون أنفسهم أنّ "الله قد خلقهم وكسر القالب"، ولكنَّ الواقعَ هو غيرُ ذلك تمامًا ولا يمتُّ لادّعائهم بأيِّ صلةٍ، قريبةً كانت أو بعيدةً، كونهم قد فشلوا على كُلِّ الصُعُدِ. فالوضعُ أصبح لايُطاق، والمُواطنُ أصبح في عَوَزٍ وقَلَقٍ على المستقبلِ والمصيرِ، والسببُ: أنّ الوطنَ اليوم هو في مأزقٍ وطنيٍّ أو قُلْ: "في أزمةِ نظامٍ وانتظامٍ"، والنظامُ مِنْ دونِ انتظامٍ يعني لا نِظامْ، فما نشاهده اليومَ يَدلُّ على تقهقرٍ في جميعِ المجالاتِ، وتخبّطٍ في سائرِ المؤسّساتِ والإداراتِ ويرجعُ هذا التخبّطُ أوّلًا إلى عدمِ الكفاءةِ، يزيدُها كما الطينُ بلّةً، أزمةٌ أخلاقيَّةٌ أبطالُها التُجّارُ والانتهازيون، والُمحْتَكرون، والُمهرِبون، والمُزوّرون، والُمتعاملون، و المتزلمّون، والفاشلون، والناهبون، والمُجرمون، بِحقِ الوطنِ والمواطنِ.

والمواطنُ في لبنان لم يَعُد على درجةٍ واحدةٍ من المواطنيَّةِ والمُساواةِ. فالُمواطنونَ اليومَ يتدرّجونَ:"من مُستزلمٍ أو مُستحزبٍ أو مُستحسبٍ أو مُتعاملٍ أو(خزمتشي)، وغيرها من الصفاتِ والمُواصفاتِ التي تُغري طموحاتِ وطروحاتِ الزعيمِ وشروطِه وتُرضي تكبُّرَه ونرجسيَّتَه. فَوالحالةُ هذهِ من تصنيفِ المواطنين، جعلتْ البلدَ مُوزّعًا قبائلَ وطوائفَ في ولاياتٍ غير مُتّحدةٍ، يُطالبُ لها بعضُ الزعماء بِمجلسِ شيوخٍ لحلّ أزمةِ النظامِ في لبنان، وقد غاب عن نواظرِهِم أنّ سببَ الأزمةِ هو عدمُ انتظامهمْ ضمنَ النظامِ.

فأنا الجنديُّ والعسكريُّ العتيقُ، وكالخمرةِ المُعتّقةِ، نكهتُها ومذاقُها أطيبُ من الخمرةِ الحديثةِ الصنعِ، وبِما أنّي استمعت إلى كلمة قائد الجيش الّتي وجّهها إلى المسؤولين عن وضعِ الجيش والمهمّات المُلقاة على عاتقه وعلى كاهله، وهي حملٌ ثقيلٌ لايستطيعُ ولن يستطيعَ أيُّ مسؤولٍ تحمّلَه لولا تضحياتُ الجيشِ في كلِّ ميدانٍ ومضمارٍ. وعن سُؤالِه السياسيّين:" لوين واصلين؟".فأنا اُجيبه: وصلتم إلى الهاويةِ. لأنّكُم لم تَتَصَدَّوْا لِلفاسِدين في الوقت المناسب. فدور الجيشِ لا يقتصر على الدفاعِ عن الوطن وسلامةِ أراضيه وحسب، وإنّما الدفاع عن المواطنين، عندما يتعرّضون للاعتداء. وهل من اعتداءٍ أكبرُ من نهبِ ثرواتِ المُودِعين ومنعُهُم من التصرّف الحرّ بِجنى أعمارِهم؟!!

أمَّا رُدودُ الفعلِ عَلى كلام قائد الجيش، فقد كانت بِمُجْمَلِها غيرَ مُوفقةٍ، باستثناء بعض الردودِ الخجولةِ المؤيّدةِ للقائدِ وللجيشِ الحاملِ همّ الوطن وأبنائه، (ولن أتكلّم على وضعي الشخصي والمأساويّ الّذي أوصلتني إليه هذه السلطة الفاسدة الفاشلة، وأوصلت أترابي من المواطنين لتنازع البقاء بصورةٍ أفقدتهم كرامتهم، وجعلتهم يتنازعون ويتعاركون للفوز بكيسٍ من الرزِّ أو العدسِ، ولم تكن حالُهم أفضلَ بكثيرٍ ممّا هيَ عليه اليوم. فمن أيّام الآباء إلى حقبة الأبناء الحاليَّة، والّتي يُمكنني القول فيها أنّها: لا تتمتع بالكفاءة ولا بالرؤيَّة، وليس لديها أيُّ خبرةٍ، لكنها تستمعُ لأصواتِ أسيادها في الخارج، وأكتفي بهذا التلميح الذي يُظْهِرُ أن الأبناء لم يبلغوا سنَ الرشدِ بعدْ).

وكما ذكرتُ آنفًا، إنّي ذاك الجنديُّ العسكريُّ العتيقُ والمُعتّقُ، تعود بي الذكرياتُ والحنينُ إلى سنينَ، بل إلى عقودٍ خلتْ، ليتها تعود أو تعود أيّام ذلك الزمن الغابر، عندما دخلتُ المدرسةَ الحربيَّةِ، متطوّعًا في الجيشِ، جنديًّا بصفةِ تلميذِ ضابطٍ، وكانت قيادةُ المدرسةِ والضبّاطُ المُدرِبون يُولونَ "النظام المرصوص" أهميَّةً كبرى. وللقرّاءِ الذينَ لا يعرفون ما هو النظام المرصوص أقول:"إنّ النظام المرصوص هو انتظام تلامذة الضبّاط، أو(العسكريّين) في صفوفٍ متراصّةٍ مُتراصفةٍ، وعلى أمرٍ من القائدِ أو المدرّبِ على التلامذة الضبّاط تنفيذُ الأمر:

(إلى الأمام سر- إلى الوراء در- مكانك قف- جانب سلاحك- قدّم سلاحك- تنكّب سلاحك).كلّ هذه الأوامر يجب أن تُنفّذ بصورةٍ محدّدةٍ، متجانسةٍ، منسجمةِ الحركاتِ بشكلٍ يبقى فيه التشكيلُ العسكريُّ محافظًا على تراصفِ صفوفهِ، ومتراصًّا في تنفيذِ أمرِ القائدِ أو المدرّبِ، وكأنّه رجلٌ واحدٌ لا مجموعةُ رجالٍ.

هذا النظامُ المرصوصُ تُشاهدونه، إخواني المواطنين وأخواتي المواطناتِ، في الاحتفالاتِ العسكريَّةِ والوطنيَّة، (عيد الجيشِ في الأولِ من آبِ– وعيد ذكرى الاستقلالِ، عيدنا الوطنيّ في الثاني والعشرين من تشرين الثاني، على سبيلِ المثالِ وليسَ الحصرِ)،وذلك عندما تمرُّ الوحداتُ العسكريَّةُ أمامَ المنصّةِ الرسميَّةِ، مُتراصفةً ومُتراصّةَ الصفوفِ، ما يُعطي لهذهِ المجموعاتِ رونقَ تحرّكِها وأدائها، ويدلُّ على قوّتِها وعظمتِها، كونَها منتظمةً، متماسكةً، متضامنةً، ومتراصّةً للدفاعِ عن الوطنِ بكلِّ قوَّةٍ وشرفٍ وتضحيَّةٍ ووفاءٍ. والجيشُ، قيادةً وأركانًا وضباطًا ورتباءَ وأفرادًا، هم مثالُ الانتظامِ، في وطنٍ أفقدتهُ السلطةُ جوهرَ روحيَّتِه، فأصبحَ جسدًا بلا روحٍ، أو قلْ جيفةً نتنةً نتيجةَ ممارساتٍ إن دلّتْ على شيءٍ فإنما تدلُّ على جهلٍ في ممارسةِ الإمرةِ الصحيحةِ المبنيَّةِ على الروِيَّةِ والرؤيَة، كما تُعبّرُ عنه المقولةُ الفرنسيَّةُ: (commander c’est prevoir)

أنا مواطنٌ أعطى جيشُه ووطنُه زهرةَ شبابِه، دون أيّ بدلٍ يُذكر ويُمنُع عليّ اليومَ تحويلُ معاشِي التقاعديّ المقدّس إلى مكان إقامتي في الخارج، لأنّ مستثمري المصرف الجدد قد تغيّرت هويّتهم من مستثمرين لبنانيّين إلى مستثمرين قطريّين، وغاب عن نظرِ وزارة المال أن هويَّة المستثمر في أيِّ مصرفٍ من المصارفِ على الأرضِ الفرنسيَّةِ لا علاقة لها بِوضعِ المصرفِ، لأنَّ كل المصارفِ معتبرةٌ فرنسيَّة.

"فالذريعةُ الّتي تتذرعُ بِها وزارةُ المالِ ليسَ لها أيُّ مُسوغٍّ قانوني".

وبرأيِّ المتواضعِ أنّ المتقاعد الكهل في الاغترابِ له الأفضليَّةُ على الطالبِ والدولارِ الطالبيِّ، ولكنْ "يا حيف وألفُ حيفٍ" على السلطةِ الّتي أوصلتِ مُواطنيها إلى هذهِ الدرجةِ من الذلِّ والهوانِ. وأقولُها بالفمِ الملآنِ:"أيّتها السلطةُ، إن كان معاشي التقاعديُّ هو المانعَ الوحيدَ من تحسّنِ الاقتصادِ الوطنيِّ، وعدمُ تحويلِه إلى حسابي المصرفي يسمحُ للمودِعين باستعادةِ أموالهِم، فإني أرضى بالتدابيرِ التي تتفتّقُ عن عبقريَّةِ مُتّخذي مثلِ هذهِ التدابيرِ الارتجاليَّةِ، ولكن لا بدّ لي من طرح التساؤل التالي: هل السلطةُ في لبنانِ تنتظمُ وفقَ النظامِ بصفوفٍ مرصوصةٍ متراصفةٍ وفقَ الدستورِ والقوانينِ المرعيَّةِ الإجراء؟!" بالتأكيدِ إِنَها لا تنتظمُ، لأنّ النظامَ بِمفهومِه اللغويِّ هو (جمع نُظُمْ وأنظمةْ، ومصدرُه نَظَمَ، وهدفُه الخضوعُ للقوانينِ والحفاظُ عليها).

"حافظ على النظام". هو الشعارُ المُعْتَمدُ في الدولِ الراقيَّةِ التي تحترمُ القانون.

والنظاميُّ هو الخاضعُ لنظامٍ، لذا قيلَ الجيشُ النظاميُّ. وهو الجيشُ المُنظَّمُ الرسميُّ الوطنيُّ، وفق رُتَبٍ وتراتبيَّةٍ هيَ في أُسِّ انتظامه.

"نَفِّذْ ثُمَّ اعترضْ"، وما نفعُ الاعتراضِ بعدَ التنفيذِ؟!

أستميحُ القارئُ عذرًا لأضيفُ التعريفَ التاليَ: الْنَظْمُ_نَظَمَ معناه "الكلام الموزون المقفّى، أو النَظيِمُ أيِ المنظومُ من الشعرِ والمُقَيَّدُ بوزنٍ وقافيَّةٍ، فالمنظومةُ هيَّ القصيدةُ التي تنتظمُ في وزنٍ وقافيَّةٍ، يتقيّدُ الشاعرُ فيها بإيقاعٍ موحّدٍ لِكاملِ أبياتِ القصيدةِ. وهيَ بدونِ أدنى شكٍّ تختلفُ عن منظومةِ الفسادِ التي لها إيقاعاتٌ مُختلفةٌ ولكنّها تلتزمُ قافيَةً واحدةً "هيَّ الوقاحةُ في النهبِ المنظّمِ، والتماديِ في عدمِ التقيّدِ وعدمِ تطبيقِ القوانين، بل على العكس فإنّها تجترحُ وتسّنُ القوانينَ التي تحمي الفاسدينَ، وتلجأُ إلى التزويرِ والتَحايُلِ على القوانينِ، من هنا استحقّتْ تسميتَها بكلِّ جدارةٍ:"منظومةُ الفسادِ".

فيا أيّها السادةُ: نظامٌ بكنفِ منظومةٍ قد نُظِمتْ على ايقاعاتِ السمسرةِ والنهبِ وقلَّةِ الأخلاقِ، هيَّ منظومةٌ بلا انتظامٍ، وعدمُ الانتظامِ يعني لانظام، و"كَما يُولّى عليكم أيّها اللبنانيّونَ تصبحونْ". وقد أصبحتُم اليومَ بِلا كَرامة: و"يللي من إيدو الله يزيدو". ولكن حسرتي على وطني وجيشِه ومواطنيِه الشرفاءِ، لا يُوازيها سوى السمعةِ السيّئةِ للمسؤولينَ اللبنانيّينَ في الخارجِ.

ففي نادي الضباط الفرنسيّ في باريس، وعندما ألتقي ببعض رفاق دورتي من الضبّاط الفرنسيّين الّذين تابعت معهم دورةً تطبيقيَّةً في العلومِ العسكريَّةِ، في كليَّةِ سان مكسان الحربيَّةِ عام (1964-1965)، ويسألونني:" لماذا أصبحَ لبنانَ على هذهِ الدرجةِ من الفسادِ؟ لقد فُقِدتْ الثقةُ بالقيّمينِ على الحكمِ في بلدِكم لبنان. ألتزمُ الصمتَ خجلًا وأضيفُ ربّما نَحن الضبّاطَ المُستقلّين والمُستقيلين السبب لأنّنا تركنا لهمُ الساحةَ يسرحونَ فيها ويَمرحونْ منذ زمنٍ بعيدٍ، الأحرى كان بنا والأجدى ورغمَ كلِّ المخاطرِ التي تعرّضنا لها (الموتُ المُحَتّمُ بصورةٍ أكيدةٍ، وقد تناقلتهُ شاشاتُ التلفزةِ والصحفُ المحليَّةُ والدوليَّةُ) ورغمَ كل هذه المآسي، كان علينا أن نبقى في الخدمةِ الفعليَّةِ لنتصدّى للصيّادينِ في الماءِ العَكِرِ، ولكنِ اليومَ ما في اليدِ حيلةٍ؟...

ويُجيبني الضابطُ الفرنسيُّ الزميل:"زميلنا عبدالله بركات، لقد تعرّفنا عليك في الكليَّةِ الحربيَّةِ في سان مكسان "دورة آل بيل فيدير" في عامَيْ 1964 و1965 وجمعتنا بك أخوَّةُ السلاحِ والصداقةُ اللبنانيَّةِ-الفرنسيَّةِ، وبصورةٍ خاصةٍ المودّةُ، والتي حوّلتَها أنتَ شخصيًّا بِشغفِك بِلبنان إلى محبّةٍ جعلتَها في قلوبِنا بِوصفِك لبنانَ لنا:"وكأنه جنّةُ اللهِ على الأرضِ"، ولكن، للأسفِ، لبنانُ يستحقُّ اليوم أفضلَ من ذلك بكثيرٍ"

أجبته: "إنّنا نعمل على إنقاذه، ولكنّنا نحتاجُ إلى مساعدةِ الدولِ الصديقةِ، لأن المنظومةَ التي تحكُمُ لبنانَ، منذُ اتفاقِ الطائفِ إلى اليومِ قدْ أفرغتْ صناديقَ الدولةِ من محتوياتِها وهي اليومَ تمدُّ يدَها إلى أموالِ المُودِعين".

هزَّ برأسِه، وعلامةُ الأسفِ عل شفَتَيهِ. ودّعتُه كما ودّعتُ زملائي الآخرين، وأنا أجرُّ ذيولَ الخيبةِ والهوانِ، وعدتُ إلى مقعدي في المقصفِ، والحسرةُ على وطني تعتصرُ قلبي، وغرقتُ في تفكيرٍ عميقٍ، وأنا أرشفُ من فنجانَ قهوتي أحزانَ بلدِي وبنيه المنكوبين، وطرحتُ على نفسي السؤالَ التالي: ما مُشكلةُ نظامِنا اللبنانيِّ؟ وأجبتُ: إنّ النظامَ البرلمانيَّ الديمقراطيَّ، هو بتكوينِه من أفضلِ الأنظمةِ المعتمَدةِ في العالمِ الحرِّ، وقد أثبتَ جدواهُ، وأنت يا عبدالله تنعمُ في فرنسا بِمثلِ هذا النظامِ البرلمانيِّ الديمقراطيّ، لكنّ مُشكلةَ النظامِ في لبنان هي أنّ اللبنانيينَ لا يرغبونَ في الانتظامِ مُطلقًا. والأمثلةُ على عدمِ الرغبةِ في التقيّدِ بالنظامِ البرلمانيِّ الديمقراطيِّ في لبنانَ عديدةٌ:

أوّلُها تسميَّةُ الديمقراطيَّةِ بالتوافقيَّةِ، بالله كيف تكونُ الديمقراطيَّةُ توافُقيَّة؟! وتعريفُها أنَّ الأكثريَّةَ تحكمُ والأقليَّةَ تُعارضُ لسببٍ وجيهٍ هو توجيهُ بوصلةَ الحكمِ التوجيهَ القويِّم، وتقويمُ الخللِ ووضعُه على السكّةِ الصحيحةِ. لكنّي تنبّهتُ إلى أنّ المسؤولين في لبنان لا يتّفقونَ على أبسطِ الأمورِ، والمواطنُ يَسْتَهْتِرُ بِكلِّ ما يصدرُ من قوانينَ وتعليماتٍ، متحاميًا بطائفته، ولائذًا بزعيمِهِ.

وإليكم نموذجًا من تصرّفِ المواطنِ اللبنانيِّ:

عندما يُسطِّرُ الشرطيُّ ضبطًا بحقِ مواطنٍ، لمخالفتِه قانونَ السيرِ، وقبلَ أنْ يستفسرَ المواطنُ عن المخالفةِ التي ارتكبَها وأدّتْ إلى تسطيرِ الضبطَ بحقِهِ، يُخاطبُ الشرطيِّ، قائلًا:"بتعرف مع مين عم تحكي؟".

لو كان السؤالُ مُوجّهًا إليّ لَكُنتُ أجبتُ:

"نعمْ أنا بَعْرِفْ إنّي عمْ إحكي مع مواطنْ، ما بيعرف يتقيَّد بتعليماتِ قانونِ السيرِ، يعني مع مواطن غير صالحٍ، ولكن أنتَ أيُّها المواطنُ، أكيد ما بتعرف مع مين عم تحكي، لأن الشرطيُّ يقومُ بِواجبِه في تطبيقِ القانونِ". هذا الموقفِ بين الشرطيِّ والمواطنِ، يَجعلُني على بيَّنةٍ أنّ نِظامَنا في لبنان، ينقصُه الانتظام، والّذي ينطبق على الشرطيِّ والمواطنِ ينطبقُ على المؤسساتِ الرسميَّةِ، حكوميَّةً كانت أو قضائيَّةً أو أمنيَّةً. وهل يُعقَلُ أن يُستَدعى شخصٌ للمثول أمام القضاء، ويتخلّفُ عن الحضورِ؟! فعدمُ الحضورِ بحدِّ ذاتِه هو إدانةٌ له. فالرجلُ البريءُ والشريفُ لا يخشى التحقيقَ أو المُساءلة، فقط المُذنب هو من يتخلّفُ، والتخلّفُ هذا هو عدمُ الانتظامِ بعينِه، لذا على الجميعِ الانتظامُ وِفْقِ القوانينِ وتطبيقُها، لأنَّ لا إلغاء لعدم تطبيق.

وعدتُ ثانيةً مع حنيني إلى بلدةِ سان مكسان، وقادتني الذكرياتُ إلى الأشهرِ الأولى فيها، يوم تجوّلتُ في شوارعِها، ومررتُ أمامَ مكتبةٍ لبيعِ الكتبِ ومنها العسكريَّةِ. دخلتُها رغبةً في إلقاءِ نظرةٍ على الكتبِ المتنوّعةِ على مناضدِها ورفوفِها، ولفتَ نظري كُتيبٌ عنوانُه:"يدَوِيّةُ الرتيبِ آمِرِ الفصيلةِ القتاليَّة"، تصفّحتُه برغبةِ الضابِط الّتي يَنشُدُ فيه معرفةَ بعضٍ ممّا كان يجهلُه في هذا المضمار، بعكس "من يدّعي في العلمِ معرفةً، عرفَ شيئًا وغابتْ عنهُ أشياءُ". تصفّحتُ الكُتيِّبَ بلهفةِ المُشتاقِ لمعرفةِ ما يتضمّنُه من معلوماتٍ، فتوقّفتُ أمام مقطعٍ إعتبرته مُهمًا، بعد أن توغّلتُ في قراءةِ النصِّ الذي يُشيرُ إلى الحالةِ التاليَةِ:

"عندما يُصبحُ الرتيبُ آمرُ الفصيلةِ خارجَ ميدانِ المعركةِ؛ لإصابته بجروحٍ بالغةٍ أدّت إلى نقلِه إلى المشفى أو أدّت بِهِ إلى الاستشهادِ، فالجنديُّ الأشجعُ من بينِ جنودِ الفصيلةِ يصرخُ: "الأمرُ لي" ويتابعُ المعركةَ مع عناصرِ فصيلتِهِ، حتى النصر النهائي، أو الاستشهادِ في ساحةِ الوغى دفاعًا وفِداءً عن وطنِه، ولم تلحظْ يدويةُ الرتيبِ أنّ الإمرةَ تعودُ لِمنْ يليهِ أقدميَّةً في الرتبةِ، كما كنَّا قد تعلّمناها في كُليَّتِنا الحربيَّةِ اللبنانيَّةِ، لأنّ للرتبةِ دورًا يقتصرُ على المهمّةِ الموكولةِ لها.

وهنا أتوجَّهُ إلى جميعِ اللبنانيّينَ مدنيّينَ وعسكريّينَ في الخدمةِ الفعليَّةِ والمتقاعدينَ منهم، هل من جنديٍّ شُجاعٍ بينَكم؟ أو كما أعهدُ الجيشَ وجنودَه من أعلى الهرمِ إلى قاعدتِه، لا تنقصُهُم الشجاعةُ ولا الإقدامُ، والشجاعةُ عِنْدي هيَ عَدوىَ تنتقلُ كما النارُ في الهشيمِ، وفي هذهِ الحقبةِ العصيبةِ من تاريِخِنا الوطنيِّ، أصرخُ بصوتي العالي في أُذنِ كلِ لبنانيٍّ مؤمنٍ بلبنانَ وطَنًا سَيِّدًا حُرًّا مُستقِلًّا لجميعِ ابنائِه:

"لبنانُ يناديكم فهلْ تُلبّونَ النداءَ قبلَ فواتِ الأوان؟"

علينا أن نُنْقِذَ وطُنَنا وهوَ واجبٌ مقدسٌ على كُلِّ لبنانيِّ، ولكنّ الانتماءَ للبنانَ هوَ فِعلُ إيمانٍ بوطنٍ لا شريكَ فيه، إلاَّ مَن كان ولاؤه لوطنه دونَ سواه مهما كانتِ المغرياتُ.

عندها، وبِموجِبِ نِظامَنَا، تسيرُ الأمورُ بصورةٍ قانونيَّةٍ، شرطَ أن نحترمَ وطنَنَا وقوانينَه، ولا يعودُ هُناكَ "أبناءُ ستْ وأبناءُ جاريَّةْ"، ويصبحُ جميعُ المواطنينَ لبنانيّينَ متساوينَ أمامَ القانونِ، "لهم ذاتُ الحقوقِ وعليهم ذاتُ الوجباتِ"، فبفضلِ القوانينِ المنبَثِقَةِ من الدستورِ، ومصلحةِ الوطنِ العُلْيا، يُصبحُ النظامُ متراصًّا ومنتظمًا، لأنّ النظامَ من غيرِ انتظامٍ، ليسَ بِنظام. كما ردّدتُ أكثرَ من مرةٍ في سياقِ هذا المقالِ، وكُلُّ ما أراهُ اليومَ في لبنانَ هوَ أزمةُ منظومةٍ ونظامٍ وانتظامٍ، وهو بكلِّ أسفٍ نتيجةُ أزمةٍ أخلاقيَّةٍ يصعبُ على المجتمعِ اللبنانيِّ معالجتُها بسرعةٍ اليومَ. لأنّ"قتل البِسه مش إسه".

لقد تأخّرنا كثيرًا في مجالاتِ التربيَّةِ المدنيَّةِ والوطنيَّةِ:

"وإنَما الأممُ الأخلاقُ ما بقيتْ ​​فإن هُمُ ذهبتْ أخلاقُهم ذهبوا"

وقد تعمّدتُ في مقالٍ سابقٍ، عنونتُهُ"حدّثني لبنان وسمِعتُه يقول" لفتَ النظرَ إلى كيفيَّةِ تأليفِ الحكومةِ الوطنيَّةِ، وتحدّثتُ عنِ الثقةِ والميثاقِ والوثاقِ الوطنيِّ. ورغم أنَّ لبنانَ في خطرٍ مُحْدِقٍ، والأعاصير والعواصفُ تُهاجمُه بالعقوبةِ والعزلةِ والاقتصادِ، وبتدميرِ مؤسساتِه وقيَمِه، وسِمْعَتِهِ وكرامتِهِ. فهلْ تسمعونَ هذهِ المرّةَ في صرختي، صوتَ الضميرِ الوطنيِّ، أوْ ترضخونَ كلُّ واحدٍ مِنْكم لصوتِ سيَّدِهِ، كما "الفونوغراف"؟

فإن فعلتُم ولبيَّتم صوتَ لبنانَ الذي يناديكم، أنقذتم بلدَكم، وإن لم تفعلوا، فعلى الدنيا السلام، والعبوديَّةُ بانتظاركم وقد أعْذَرَ مَنْ أَنْذَرَ.

*الضابط المتقاعد عبدالله حبيب بركات - باريس