فليسَجِلْ التاريخ أنهنّ أمهات لبنان! ~جورج يونس
صوتنا – جبلنا ماغازين
بقلم: جورج يونس - بيروت
نحن جيل الحرب، منذ بداية معاناتنا في هذا الوطن التائه وسط عواصف الحسد والغدر، صُوَرٌ كثيرة بقيت راسخة في مخيلتنا عن مآسي وويلات حقباتنا السوداء. مرت السنين، وتركت خلفها قلوبنا المشلعة بالجروح التي لم يُضَمدْها الزمان، وذاكرة حافلة بنكبات لا تمحى سترافق في حكاياها أجيالنا القادمة عبر كتب التاريخ. ذكريات باقية معنا ما حَيينا، تستحضر الرفاق والبطولة والعونة والنخوة في أحلك الظروف... تحاكي قطرات دم أحباب سقطوا دفاعاً عن أرضهم واهلهم وقضية سرقها منتحلو الدفاع عن الحقوق، من خلال عملية دجل تراكمية، مغلفة بِكَمّ من الرياء والغوغائية والإجرام لم يسبق لها مثيل حتى في أفعال سفاحي الحروب الغابرة في العالم.
من تلك الأيام صور فريدة لا تزال تواكب نضالاتنا اليومية، باعثة للحب والأمل والعاطفة من كنف الظلمات. إنها صورة "الأم اللبنانية" التي لم تتعب يوماً من القلق والدموع والوداع ولملمة الجراح. هي تلك الأم التي ما أنبرت تبحث عن مصير فلذات أكبادها عبر خطوط الهاتف الثابتة ونشرات وملاحق الأخبار، وعبر شاشات التلفزة ورسائل الواتساب، ومكاتيب الغربة، وشغف قلب الأم الباحث أبداً عن الطمأنينة.
كيف ننساها، وهي من رافقتنا في أنصاف الليالي وتحت وابل القذائف لتتأكد أننا أحياء ولتحمل لنا تحت زخات الرصاص صينية القهوة وسندويشات الطعام المحضرة بأناملها المرتجفة وغصتها الحنونة؟
كيف نكافئها وهي التي ذرفت دموعها لسنين عديدة بمجرد سماع صوتنا عبر الهاتف أو عند استلام رسائلنا من خلف جدران الغربة؟
كيف لا نُقَّبِلُ يديها وهي من توسلت سجون الذل والأسِرْ بغية إلإطمئنان علينا وإطلاق سراحنا؟
كيف لا ننحني للخناجر التي غُرِزَت في صميمها وهي تودع، بسبب الحرب والفوضىى والظلم، شهيدها وقطعة منها تحت التراب؟
كيف لا نبكي ونحن نتذكر كيف كانت ترافقنا ونحن صغار لتحمل عنا الشنطة المدرسية خوفاً على نُمُوِنا؟
كيف نتجاهل حياة الوحدة والقلق والإكتئاب التي عاشتها ونحن خلف حيطان الهجرة والنضال؟
كيف لا نرتعد أمامها وهي منهارة أمام تدمير جنى عمر أبنائها من خلال معارك سلطة ومحاصصة وتفجيرات مجرمة، أخرها تفجير بيروت المدمر؟
كيف أنسى ما حصل أمامي خلال الثورة، وانا أرى أمهات من كل الطوائف، تتلقى العصي والهراوات من القوى الأمنية، عن شبابنا من كافة الطوائف حفاظاً على أمل أفضل لا زلن يحلمن به لأبنائهن في وطنهم؟
كيف ستختفي يوماً من ضميري صورة تلك الأم المسيحية التي لبست الحجاب ورسمت الصليب والهلال على جبينها بين عين الرمانة والشياح لتمنع إقتتال الأخوة مجدداً إكراماً لغطرسة الزعماء؟
كيف لا أغضب وأنا أرى أم لبنانية كبيرة تذرف الدموع لأنها لم تتمكن من الحصول على زيت وبضائع مدعومة لعائلتها؟؟؟
لكل ذلك، أنتِ وكل أمهات لبنان عظيمات يا أمي! وإن لم ينصفكنّ الزعماء والحياة والمجرمون السكارى بدم الأبرياء، فنحن أبداً لن ننسى عذابكنّ وتضحياتكنّ ومعاناتكنّ! وإن كان للمسيح مريم تحت الصليب، فلأمهاتنا كل المحبة والتعظيم وهنّ لا يزلن يجثون يركعن عند صلبان حملناها وإياهنّ بألم لا ينتهي... بسبب حكام وتجار باعونا وباعوا الضمير!
كل عام وعيدكنّ مبارك يا أمهات لبنان...
*جورج يونس - بيروت