حكومة من خلف الجدران... -بقلم: الياس كسّاب
بقلم: الياس كساب (الرئيس العالمي السابق للجامعة اللبنانية الثقافية في العالم)
كم هوَ مُروّعٌ مشهدُ الجدران التي شُيّدت في بيروت لحمايةِ السلطة، فإن دلّتْ على شيء، فعلى الهبوط المُدوُي للسلطتين: التشريعيّة، والتنفيذية. فكأنَّ أهلَ الحكمِ التجأوا إلى معقلهم الأخير، بعد أن تحرّرَ الشعب اللبناني من قيوده، وهدّمَ الجدرانَ الفكريةَ والطائفيّةَ التي بنتها الطبقةُ السياسيةُ الفاسدة.
هم يعتقدون أنهم ببناء هذه الجدران ربما يعودون باللبنانيين إلى ما قبل ١٧ تشرين، فيوزعونهم مُجدّداً بين حيطان كانتوناتهم، فينعمون هم بتقاسم الحصص، ويبيعون أنصارهم طرائدَ جاهزة في حقول صيدِ الآخرين، لبناء زعاماتهم الفارغة، إلا من جاهليّةٍ همجيّةٍ تتعشّشُ فيهم، يُفلِتونها على من يعترض!
وها هي السلطة، وفي ليلةٍ كالحة، ومن خلف هذه الجدران، تطلع علينا بتكليف، بالشكل، وبالمضمون، (مع الاحترام الكامل للشخص المُكلف)، أقل ما يقال فيه إنّهُ محاولةٌ أخيرةٌ لاسترجاع "هيبة" الانقسام الطائفي العامودي، فبعد أن سقط التهويل بالحرب الأهلية، لأنّ الحرب تتطلب فريقين مُتحاربين، ووعي الثورة السلمية المدنية أجهض هذا الخيار الممجوج من اللبنانيين كافةً، فهذه السلطة الفاسدة التي لا تعيش إلا على إذكاء التعصب المقيت، تحاول حرقَ البلاد بالنار المذهبيّة، وهنا يكمنُ التحدي الكبير لكل اللبنانيين كي لا يقعوا بالمحظور، ألا فليتنشقوا مناعةً من هواءَ الثورة العابر للطوائف، وحده غير الملوث، من أقصى الجنوب، وهضاب جبل عامل المترامية، إلى أعالي الشمال، وضوع أزرنا الخالد، ومن ساحل بيروت الجميلة، حتى حقول الأقحوان في حرمون، وسهول الشمس في بعلبك.
لقد تفرّستُ طويلاً بصورة الرؤساء الثلاثة بعد التكليف، فلا ابتسامة تعلو الوجوه، وإذ بعيونهم تُحدِّقُ في اللا شيء، ربما خجلاً، أو لأن الفراغ الذي أحاطوا أنفسهم به أعمق من أن يروا نهاياته. وللحظة، أحسست بالحزن المميت في زمنِ غيابِ القادة!
إنها السلطةُ المُطأطئةُ الرأس، تنضحُ شعورًا بالذنب أمام شعبٍ ثائرٍ يطالب باسترجاع أمواله المنهوبة، وبأبسط حقوقه في الديمقراطيات: عدالة، حريّة، سيادة، ومساواة.
إنها السلطةُ التي قَبضتْ ثمنَ سفحِ شرفها وهيبتها سلفاً، ظنّاً بأن ما ارتكبت من المعاصي كان، وسيبقى مُستتِراً، فإذا بالثورة تكشف المستور، وإذا بالشعب عالمٌ بِخفايا الأمور، وإذا بمظاهر القوّةِ صنمٌ ضخمٌ أجوف، تهاوى مع ريح الانتفاضة.
للثورة كتابها فلم تُحسنْ هذه السلطة قراءتَهُ، وللثورة منطقُها، فلم تفقهْ هذه السلطةُ مُقارعَتَهُ، وللثورة ناسُها، فلم تُحسنْ هذه السلطة مُخاطبتهم إلا باثنين: بالجهلِ، والتجاهل، وما بينهما من خُبثٍ ممزوجٍ بالازدراء.
هنيئاً لهذه السلطة السجن داخل الجدران، وهنيئاً للشعب الحريّة على مساحات الوطن!
*الياس كساب - الرئيس العالمي السابق للجامعة اللبنانية الثقافية في العالم