Follow us

image

الاغتراب و”الثورة” وكتابة عقد إجتماعيّ لبنانيّ جديد ~بقلم: الياس كسّاب

بقلم: الياس كساب – الرئيس السابق للجامعة اللبنانية الثقافية في العالم

(تورونتو - ٣ تشرين الثاني ٢٠١٩) 

أكتب هذه السطور، ليس كمراقبٍ لما يجري في لبنانَ اليوم من انتفاضةٍ شعبيّةٍ قلَّ نظيرها فحسب، بل كاغترابيٍّ سمحت لي طبيعة عملي كناشطٍ في الاغتراب، على علاقةٍ بفعاليات من الجاليات اللبنانية على امتداد القارات، المغتربين منهم، أو المتحدرين، حاملي الجنسية اللبنانية منهم، أو الذين لم يحصلوا عليها بعد، الناطقين بالعربية أو "اللبنانية" من بينهم، أو الناطقين بلغات بلدان الإقامة، كبار السن من بينهم، وأرباب العائلات، مثقفات ومثقفين منهم، سيدات أو رجال أعمال، أدباء وفنانين، وبالأخص، علاقة مميزة مع شبيبة الانتشار، ومن كل القارات، والذين قضيت معهم أجمل تجربةٍ في عملي الاغترابي كرئيس عالمي للجامعة اللبنانية الثقافية في العالم، وعلاقة مع المهاجرين الجدد، أعني مهاجري ما بعد سنة ١٩٧٥، والذين حملوا معهم من لبنان أحزابهم، وخلافاتهم، وأفكارهم، أو ربما رفضهم، وقرفهم، وغضبهم الكبير.. 

إني أستطيع القول: إنَّ الاغتراب لم يتفاعل يوماً في السابق كما يتفاعل اليوم مع التطورات في لبنان، والجدير ذكره هنا أنّ الاغتراب انتفض مؤيّداً "الثورة البيضاء"، في مدنِ وعواصم العالم، وكانت انتفاضته أبعد من الأحزاب اللبنانية الموجودة في الخارج، وأبعد من المهاجرين الجدد، بل طالت المتحدرين منهم، فما تحركهم في دول أمريكا اللاتينية، من المكسيك، حتى البرازيل والأرجنتين، إلا خير دليل على ذلك، ونعطي هنا لتقنيات وسائل التواصل الاجتماعي دوراً فعالاً في جعل المغترب اللبناني، أينما كان، في قلب الحدث.

والسؤال المطروح اليوم: ما هو الدور الذي يجب أن يُعطى للاغتراب اليوم على ضوء ما حدث، ويحدث، وسيحدث، وهل هو دورٌ يجب أن "يُعطى" أو يجب أن "يؤخذ"؟

وللإجابة على هذا السؤال، دعونا نستعرض ماذا يحصل في لبنانَ اليوم، بعينٍ مجردة، تتوسل النقد السياسي الإيجابي، الهادف إلى التطوير، معتمدين على صراخ الاحتجاج الشعبي بـ "سلمية"، قبل أن تنقلبَ "الثورة البيضاء"، كما أستسيغ تسميتها، إلى "ثورةٍ حمراء" قد يتسبب بها التكابر المتمادي، أو سياسة الهروب إلى الأمام، والمستمرة، أو الانكفاء نحو الطائفية، لا بل المذهبية، لقمعها، ربما بقوى الأمر الواقع، وبرضى جميع الفاسدين، بعد أن أثبت الجيش أنه لن يكون أداةً لذلك.

متكابرٌ ومعاندٌ من لا يرى أنَّ مواقعَ السلطة جميعها محاصرة، "قصر الشعب"، "بيت الوسط"، و"عين التينة"، وكأنَّ من مارس هذا الحصار على "السراي الكبير" من قبل، لم يعلم أنّ الشريط الشائك الذي حمله، سوف يلتف حول مواقعه، مهما عظمت قوته المستوردة، ومهما حاول أن يعمم سياسة الفساد على صيغة "من ساواكَ بنفسه ما ظلمك"، أو "كول وشكور، أنا بقرر عنّك تنعّم بغلتك وسكوت"، فهذه الثورة على الفساد بالذات أحكمت حصار ركائز الحكم الثلاثة، في السلطتين: التشريعية والتنفيذية، وفي محاولةٍ لفك هذا الحصار نشهد اليوم العودة إلى شد العصب الطائفي والمذهبي للمواقع الثلاثة، وصدقوني، بموافقة الثلاثة، فلا ضير، يعتقدون، أنّ يتلاشى التمثيل الدستوري لهذه "القصور" الثلاثة إلى درجةٍ وضيعة، أصبح معها التمثيل مرادفاً لأقل من تمثيل الطائفة حتى، ليصبح تمثيلاً لحزبٍ واحدٍ من الطائفة، مشكوك بأمره حتى من بعض أفراد هذا، أو ذاك الحزب نفسه، ولا بد من ذلك طالما أننا نحافظ على "الزعيم".

في مقابلتي الأخيرة مع السيدة ليليان أندراوس على أثير إذاعة لبنان، كان لي عتبٌ كبير على الشباب في لبنان، حيث اعتبرت أنّ الشباب اللبناني مُنقادٌ للزعماء دون نقاش، ولم يعودوا عصب التغيير في لبنان، وإني أتقدم، في مقالتي هذه، بالاعتذار من شاباتنا وشبابنا، لقد ناقضوا توقعاتي، وبرهنوا أنهم يقودون ثورةً عابرةً للطوائف، عابرةً للطبقات، وعابرةً للمناطق. فيها المشرّد، والعاطل عن العمل، والجائع، والمتوسط الحال، فيها الطالب والأستاذ، فيها الممرض والطبيب، فيها المحزب الذي نزع ثياب حزبه وارتضى أن يسمع الإساءة لرئيسه من المتظاهر بجانبه ويصمت، حفاظاً على الانتفاضة، فيها المواطن البسيط الذي لا يعرف شيئًا عن ماركس ولينين وتشي غيفارا، ولا يفقه الفرق بين الاشتراكية أو الشيوعية، ولا تهمه العلاقة "الجدلية"، ولا صراع القوميات، ولا الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية، ولا الرأسمالية، ولا دافوس والعولمة الجديدة.. وفيها الفنان والمثقف، وأساتذة جامعات، ومناضلون ملتزمون بالحرية وبحقوق الإنسان، وفيها من البورجوازيين، والأغنياء حتى، هالهم سير البلاد، وبسرعةٍ قصوى، نحو الهاوية، سياسياً، إقتصاديّاً، واجتماعيّاً، فقرروا أن ينهضوا، ويستنهضوا، فيها من يتلقى الضربات بجسده، ومن يحارب بفكره وقلمه، فيها الأب المجروح، وفيها المرأة اللبنانية أيضاً، وبأعظم تجلياتها، وهذا الأهم، فهي عماد البيت اللبناني، ومربية الأجيال الصاعدة التي ستكون نواة المستقبل المنشود..وأهم ما في هذه الثورة، أنها بلا قيادة، فلا خوف على الثورة من "أن تأكل أبناءها"، كما يُقال، فإنه "الغموض البنّاء" أسميه، والذي أضاع رشد الزعماء والسياسيين.

الاغتراب و"الثورة البيضاء" عنصرا التغيير القادم

في غمرة المطالب التي يطالب بها المنتفضون في لبنان، من حكومة حيادية، إلى مكافحة الفساد، والدعوة إلى تغيير قانون الانتخاب تمهيدًا لانتخابات نيابية مُبكرة، لوقف الفساد، واستعادة الأموال المنهوبة من سارقيها، وعلى فكرة، ليس السارقين اللبنانيين وحدهم، بل غير اللبنانيين أيضاً، خاصّةً في زمن الوصاية السورية، وتحقيق مطالب العدالة الاجتماعية من تعليم واستشفاء وتكافؤ فرص، وكهرباء ومياه نظيفة، والمحافظة على البيئة ومعالجة أزمة النفايات.. وهي مطالب تُعد ولا تُحصى، يبرز أهمها، برأيي، قانون انتخابات جديد، وانتخابات مبكرة، لإعادة تكوين السلطة، التي وحدها، تستطيع أن تخطو بالدولة نحو النمو.

وعليه، إني أُذكِّر المنتفضين بأن لا ينسوا أبداً أهمية المغتربين وقوتهم في التغيير القادم، إذا ما أحسنّا تعديل قانون الانتخاب، وهذا هو موقفنا من هذا القانون، نضيفه إلى مطالب "الثورة البيضاء".

لقد رفضنا قانون الانتخاب الأخير، لأننا نعتبر أنه قانون يعطي حضوراً صوريّاً للاغتراب عبر إعطائهم ستة (٦) نواب، مقسمين طائفياً، وعلى القارات. إنه تحجيمٌ مرفوض بتاتاً. ولا حاجة لنا لنواب في الاغتراب، ولا لاستيراد الصراعات السياسية اللبنانية إلى الخارج، وهي تصطدم أحياناً بالقوانين والحكومات المحلية في بلدان الإقامة، حيث يُصنّف البعض من هذه الحكومات بصفة الإرهاب، مما يزيد من إحراج الجاليات اللبنانية أمام حكوماتها، فيكفي اللبنانيين مهانةً في المطارات!

نحن طالبنا، وما زلنا نطالب، بأن تصب أصواتنا في بلداتنا وقرانا ومدننا في لبنان، ونحن نرى، في تجاوب المغتربين مع الانتفاضة الشعبية في لبنان، ما يؤكد حضور المغترب التام لممارسة دوره في تكوين السلطة التشريعية. إن احتساب أصوات المغتربين في دوائر لبنان الانتخابية يُغيّر في موازين القوى، مستفيدين من وعي المغترب، البعيد عن الترغيب والترهيب، والمتمرس بالديمقراطية في بلدان الإقامة.

لقد اخترعوا بدعة "تسجيل حاملي الجنسية اللبنانية" في الخارج، فخاف المغتربون من انسلاخهم النوستالجي عن قراهم ومناطقهم، فأحجموا عن التسجيل، وجاءت الأرقام بعيدةً جداً عن الواقع، فتجاوز التسجيل قليلاً الثمانين ألفاً، وفي كل القارات، وللأسف، هذا الرقم كان يمكن أن نحصل عليه من مدينة واحدة، كمونتريال مثلاً، وهذا دليل عدم ثقة، بالقانون، من جهة، وبواضعيه، من جهةٍ أخرى.

بواسطة مكننة لوائح الشطب في وزارة الداخلية اللبنانية، يجب أن يُعطى حامل الجنسية اللبنانية الحق بالاقتراع في أي سفارة، أو قنصلية لبنانية في الخارج، أو في مراكز تُنشأ بمساعدة جمعيات غير حكومية NGO، وبإشراف الأمم المتحدة. 

إنّ إعطاء الحق لحامل الجنسية اللبنانية للتصويت دون إجباره على التسجيل، وهذا حق دستوري يكفل عدم التمييز بين اللبنانيين، يفتح المجال أمام الصوت المغترب، الحر، الواعي، كي يقلب مقاييس الأداء الديمقراطي اللبناني، ويجعل السياسي تحت مجهرعين ذكية، من الصعب السيطرة عليها أو توقع نتائجها، فيستعيد الناخب دوره الفعال في حالتي: الاقتراع، والمحاسبة.

يجب أن يُفرض التسجيل فقط على الذين استعادوا الجنسية من المتحدرين فقط، ولمرةٍ واحدة.

هذا ما نطالب به كاغتراب، وهذا ما يجب أن يُضاء عليه وأن يُضافَ إلى مطالب المحتجين، لأنه تطوير للديمقراطية، وتعزيزٌ لها، وضمانةٌ للثوار بالتغيير، فإما أن يُعطى لنا ما نريد، كمغتربين، وإما أن نقاوم ما فرضوه علينا، فلن يمر!

إنّ تغيير السلطة، ومعالجة الفساد، ستتيحان للمغتربين استعادة الثقة بالاقتصاد اللبناني، فيستعيدون دورهم في الاستثمار فيه، خاصّةً، وأن الاستثمار الاغترابي لم يعد استثماراً "عاطفياً"، كاستثمار المغتربين في لبنان الستينات، حيث بنوا بيروت الكبرى، وخسر معظمهم جنى العمر نتيجة الحرب الأهلية البغيضة، فإنّ جيل المستثمرين اللبنانيين الجديد جيل ذكي، علمي، وبراغماتي، وهو ينتظر تعديل القوانين والأنظمة المالية، والمحفزات، والتسهيلات للمغتربين، وعلى الأخص معالجة الفساد وعدم فرض الخوات عليهم من المتنفذين، كي يعود ليستثمر في أرض أجداده من حبه وفكره وتعبه وماله.

لا نعتقد أننا ذاهبون إلى "تغيير النظام"، بالمعنى السياسي الدوغماتي للكلمة، بل أوافق المفكرين من أهل الحراك المدني، والذين استمعت إلى العديد منهم، والمطالبين بعقدٍ إجتماعيٍّ جديد بين اللبنانيين، مبنيٍّ على وحدة اللبنانيين في تحركهم، فهم في هذه الانتفاضة، تجاوزوا مفهوم "صيغة ١٩٤٣"، بالمعنى الطائفي، لينتقل اللبنانيون معها إلى "المواطنة" والمساواة الحقيقية فيما بينهم.

تمنياتنا أن تحافظ الثورة على سلميتها، وأن لا يسمح الجيش بإراقة الدماء أو باستعمال العنف، من أيٍّ كان. إنّ ما يحصل هو باكورة وعي في الضمير الاجتماعي، سيحدث تغييرًا، عاجلاً أم آجلاً، ولكن، فلنتذكّر، أنه إذا كان لقيد الشعب أن ينكسر، فإنّنا، وعشية ذكرى استقلالنا نقول: لا بد لقيد الوطن أن ينكسر أيضاً، فلا تغيير دون حرية، ولا عدالة دون سيادة، ولا مساواة كاملة أمام القانون دون استقلال ناجز، عسى هذه الانتفاضة العابرة للطوائف تُحفّزُ البعض للعودة، سلمياً، من مستنقع الإقليم، إلى أحضان الوطن.

*الياس كساب – الرئيس السابق للجامعة اللبنانية الثقافية في العالم