Follow us

image

بين أهلنا في الوطن وأولادنا في الغربة – هناء حمزة

كتبت هناء حمزة:

بعد نحو ثلاثين عاماً التقيت صديقاً جمعتني به الطفولة وبعض من المراهقة قبل أن تفرقنا الغربة، هو إلى أوروبا وأنا لاحقاً الى الخليج، ليعود الخليج فيجمعنا ثانية وكأننا لم نفترق .
ساعتان مضتا كدقيقتين. تحدثنا في كل شيء وناقشنا مختلف القضايا، وأهمها أولادنا في الغربة وأهلنا في لبنان ونحن بين الاثنين ننتمي إلى هنا كما ننتمي إلى هناك ...

أخبرني صديقي أن ابنته تأبى أن تقول إنها لبنانية تحمل الجنسية الأوروبية، وتفضل أن تصف نفسها بالأوروبية من أصل لبناني... ويخبرني عن والده الذي يطالبه بان ينتمي أولاده إلى وطنهم الأم لبنان، فيجيبه "عشت في لبنان أول ١٧ عاماً من حياتي وعشت في أوروبا ٣٠ عاماً، لذا أنا اعترف أنني انتمي إلى لبنان وأحمل الجواز الأوروبي، ولكن كيف تريد لأولادي الذين ولدوا وعاشوا في أوروبا أن ينتموا الى لبنان؟ انتماؤهم هو للبلد الذي ولدوا ودرسوا وكبروا فيه ويحملون جوازه"...

حديثي مع صديقي نقلني إلى ذاك الصراع الذي أعيشه في كل مرة أزور لبنان حيث "أهلنا وأولادنا .. ونحن بالوسط". فنحن لم نعد كما أهلنا، ولسنا كأولادنا... نفهم عليهم معاً ولا أحد يفهمنا...

لا أذكر أني قلت لوالدي يوماً أنا ضجران، فهذا لم يدخل يوماً في أسلوب حياتنا. أما أولادنا فالأمر معهم يختلف، فعلينا ان نربي ونسلي ونحصن ونعلم في آنٍ معاً... يقول صديقي ونحن نسترجع معاً كيف تربى جيلنا وكيف نربي أولادنا.. وهنا بيت القصيد، فأولادنا لا يتربوا أمام اعين اجدادهم بل بعيدا عنهم وبأسلوب مختلف تماما واهتمامات تخرج عن قدرة أهلنا على استيعابها، وهم في ذلك على حق - كما اولادنا على حق – إلا أن هذا الاختلاف ندفع ثمنه نحن عندما نزور لبنان في الإجازة،  فأهلنا يريدوننا وأولادنا معهم، وأولادنا يريدون تيتا وجدو أول يوم ثم يريدون مشاريعهم وإجازتهم وبرامجهم الخاصة ونقع نحن فريسة الاثنين معاً، فلا نرضي الأهل ولا نرضي الأولاد، ونشعر أن الإجازة التي جاءت بعد عناء سنة ذهبت أدراج الرياح بحيث لم نحقق للطرفين الذين نعشق ما ينتظرانه منا.

أهلنا اليوم يريدون أن يحصدوا ثمار تربيتهم وعطاءهم بأن يكون أولادهم وأحفادهم لهم ولو في الإجازة،  ويريدون منهم اهتماماً وإصغاءً كاملاً ودعماً عاطفي، وهم الان في أضعف أيامهم وأكثرها حساسية. ونحن مع كل قربنا منهم وحبنا لهم إلا أننا أصبحنا في مكان آخر وفي مقلب اخر... فكيف بأولادنا؟

يجهل العديد من الأهل أن الاغتراب ليس بشهر عسل، وان اختلفت التحديات. فحياة المغترب قاسية وليست سهلة. المغترب طبعاً لا يجرف الذهب من حديقة المنزل، وهو طبعاً لا يجد من يشد على يده إلا يده، وأولاده يكبرون من دون عائلة حتى يصبح أصحابهم عائلتهم، ويتعرضون كما أهلهم لضغوطات مجتمعية مختلفة تماماً عن لبنان ولكنها قاسية وقاسية جدا بقساوة العيش في لبنان ولو اختلفت اتجاهاتها.. تخبرني صديقة متخصصة في شؤون المراهقين ان " ٨٠ في المئة من المراهقين يعانون من اكتئاب أو قلق... هذا تحدٍ قد يجهله أهلنا تماماً، جيلنا عاش تحت القصف وبين الحواجز وفقد أحباباً وأصدقاء ولم يعانِ من قلق ولا اكتئاب...

العالم يتغير، وها بمهن تأخذ مكان الأهل والأصدقاء ورجال الدين... تسمعون طبعاً عن مدربي التنمية البشرية ومهارات الحياة. انه اختصاص الحاضر والمستقبل... في أيامي كانت الحركة الكشفية هي التنمية البشرية، أما مهارات الحياة فتعلمتها بذراعي، والإحباط قاومته بحب الحياة وإرادة النجاح... أما اليوم، فأصبح حب الحياة علم وهناك مدرب له!

تغير العالم... تغيرنا نحن... أهلنا أيضاً يتغيرون... هم الحلقة الأضعف اليوم بعدما كانوا هم العمالقة والـsuper heroes  والسند. وأولادنا قلقون على مستقبلهم وعلى حاضرهم، والتحديات تبدو أكبر منهم أو من قدراتهم... أولادنا عالمهم في هواتفهم وتحدياتهم خارج حدود المنزل والحي والمدينة والبلد.

كيف نشرح لاألنا ان كل هذه المكتبة في غرفة جلوسهم والتي تحوي آلاف الكتب المجمعة عبر سنين طويلة ممكن اختصارها بجهاز آي باد؟ وكيف نشرح لأولادنا أن كل هذه الكتب لها قيمة معنوية لا تقدر بثمن؟؟ كيف نمدهم بالقوة لكي ينجحوا؟ وكيف ينجحون وسط عالم تتدنى فيه الفرص حتى يبدو وكأنها تنقرض؟

أولادنا - حتى ولو كانوا يملكون كل شيء - إلا أنهم مكتئبون... فالتحدي الأبرز للجيل الجديد هو العزلة والوحدة..

كلمات إذا كررناها على أهلنا الذين جمعتهم بيوت صغيرة عامرة بالعائلة والأخوة والحب سيشعرون بعزلة من نوع آخر قد تكون أقسى وأشد وطأة وندفع نحن ثمنها مجدداً من إجازة لم تعرف الإجازة ومن جلسات نقاش لا تنتهي عن التربية والانتماء...

أودع صديقي ونتفق على ان نلتقي باستمرار..  فما يجمعنا غربتنا عن وطنٍ يراه أهلنا الوطن ونحن نراه حنيناً الى الوطن وأولادنا يرونه أصولَ وطن.

*هناء حمزة – إعلامية مقيمة في دبي