Follow us

image

إنها هزيمة الاغتراب... عذراً ميشو! ~بقلم: هناء حمزة

(المقالات والآراء الواردة هنا لا تعبر عن سياسة موقع "جبلنا ماغازين"، بل تعبر عن رأي كتابها)

هناء حمزة – دبي

كنت من بين المغتربين الأوائل الذين تسجلوا في الخارج لضمان حقهم في الانتخاب، وكنت أرى أن حق المغترب في الاقتراع هو الطريقة شبه الوحيدة لقلب الطاولة على رؤوس الفئة الحاكمة التي جلّ ما تريده المحافظة على مصالحها على حساب مصلحة الوطن والمواطن.

تبعثر الحلم عندما سمعت أن عدد المغتربين المسجلين لا يمكن أن يهز الطاولة، فكيف بقلبها؟

لم يرضَ المغترب اللبناني أن يحمل مسؤوليته تجاه حلم الوطن ويأخذ على كاهله مسوؤلية بنائه رامياً ثقل الوطن على كتف أبنائه في الداخل ومكتفياٍ بصورة الأرزة والعلم اللبناني خلفه على مواقع التواصل الاجتماعي ودبكة "راجع يتعمر راجع لبنان" في احتفالاته...

بئس هذا المغترب الذي لا يحتاج لخدمة مسؤول لكي يحيا، ولايحتاج لحماية مسؤول لكي يعيش. ومع ذلك فضل أن يبقي الطاولة كما هي، راضياً بالوطن كما هو وساخراً من الوطن كما هو...

لم أقابل مغتربا إلا و"كرفَت" على الوطن وعلى زيارته الاخيرة له... من المطار إلى فاتورة المطعم مروراً بالكهرباء والطرقات والنفايات والسرقات ولائحة لا تنتهي من النق غالباً ما تختم بـ"آخر مرة بِنزَل وبنزّل عيلتي على لبنان!"... ليردف: "أنا مجبور إنزل شوف أهلي ولكن عائلتي لن اجبرها على ذلك".

أهلك يا صديقي المغترب يُداسون بأقدام تلك الطاولة التي لم تكلف نفسك عناء المشاركة في قلبها...

أهلك وأهلي يعيشون في هذا البلد الذي لا تريد لعائلتك الصغيرة أن تزوره... يتنفسون ذلك الهواء الذي تبدي استعدادك لتتنفسه لأيام معدودة فقط مع ألف "منّية" كرمى لعيون الوالدة أو الوالد..

أهلك وأهلي قسم منهم مجبر أن ينتخب لاعبي الطاولة ليكفوا شرهم ولأنهم يجب أن يُحسبوا على زعيم طائفتهم ليناموا في سلام...

حلم أهلك وأهلي أن يناموا. وحلمي هو أن تستيقظ ان نستيقظ نحن القوة الاغترابية التي تفوق العشرة ملايين لبناني في العالم من سباتنا العميق ونلتفت مرة واحدة الى الوطن على أساس أنه الوطن وليس "زيارة للوطن"، وقسم منهم مستفيد من الطاولة واللعب عليها...

المهم - ولا أريد أن أجلدك كما أجلد نفسي يومياً على عدم تحملي مسؤولياتي الوطنية والاجتماعية والاكتفاء بتناول التبولة والتغني بلذة المطبخ اللبناني - المهم أن ما يطبخ في لبنان غير ذاك الصحن الشهي. ما يطبخ هو قالب كاتو تم الاتفاق على كل قطعة منه، وأنت وأنا نتلهى بصحن التبولة، وأهلي وأهلك يتلهون بمصائبهم اليومية وهمومهم اليومية والألم الذي تسببه قدم الطاولة تحت رؤوسهم...

المهم أن مهلة التسجيل انتهت على عشرات الآلاف من المسجلين بدلاً من مئات الآلاف الذين كان يجب أن يتسجلوا، وأن مهلة الترشح انتهت على مئات من المرشحين لا أحد بينهم يستحق صوتي...

أقلب اللائحة رأسا على عقب من الجنوب الى الشمال... لا أحد! لم أجد اسماً واحداً أثق به.

أضحك... هيدا الولد بدو يعمل نائب. إيه ما بيّو نائب!

أبتسم... هيدا الاعلامي بدو يعمل نائب. إيه كبر راسه وفكر إنه بيمشي حاله!

هيدا الأزعر بدو يعمل نائب. يتجهم وجهي...

وهيدا الحرامي كمان بدو يعمل نائب. أحبس دمعتي...

هيدي الست بدا تعمل نائب. هه هه هه أضحك من جديد... مطلوب ستات للنيابة ليش لأ؟ بتستاهل ما هي ست ستات الصالونات... يا ربي على هالمسخرة!

يخرج من بين الأسماء أسم أعرفه... يه يه هيدا "ميشو"! لا أستطيع أن أنسى ميشو، الصبي الراقي صاحب المعزوفة الجميلة في الزمن القبيح، جار "شارع السكر" حيث لا شيء كان يهدئ نفوسنا بين القذيفة والأخرى إلا عزف ميشو على البيانو... لم أكن أتخيله مرشحاً للنيابة في المدينة التي أحب...

 ميشو وحيد أهله. هو تقريباً الوحيد من جيلي الذي صمد في الحي كما صمد في طرابلس، فعدا عن كبار العمر، قلة من المسيحيين صمدوا في المدينة في كل مراحلها... درس فيها وعمل فيها وعاش فيها ولم يبع بيته ويهجر طرابلس. لم يغيّر سجل نفوسه.. لم يسقط عليها بالمظلة الانتخابية.. ولم يرضخ للتهديدات أو المغريات...

ميشو جار الطفولة يستحق صوتي لعلّ صوته يستطيع ان يهدئ نفوس أبناء الوطن ويعكس بعضاً من رقيه في ردهة مجلس النواب. أقول ذلك لنفسي قبل أن ينبين لي أن ميشو يمثل حزباً، وأنا والأحزاب "لسنا أصحاباً"...

أخاف أن يكون ميشو تغير. أخاف أن تلتهمه لائحة وحزب، وهذه الانتخابات تحكمها اللوائح والائتلافات.

أنا من جيل عنده عقدة اسمها حزب. لكنني لم أرَ ميشو يوماً يحمل رشاشاً أو يفتعل مشكلاً أو حتى يتكلم بصوت عالٍ... وحتى حين يتكلم، لم أسمع يوماً غير صوت عزفه ولم أر غير وجهه الهادىء. ولكن عقدة "الحزب" تطاردني...

عذرا ميشو. أريد نائبي مدنياً حراً لا ينتمي إلى حزب أو تيار، بل ينتمي إلى مجتمعي.. لا ينتمي إلى قضايا حزبه او تياره، بل ينتمي الى قضايا وطني.. ولاؤه للوطن، قلبه على الوطن، وعقله من أجل الوطن.

أشعر بالهزيمة.

أعود الى اللائحة. أبحث في بحارها. اقرأ عن تحالفات الاسماء فيها. عن لوائح تعدّ تحت الطاولة. عن طاولة بالية تثبّت في "شلوش" الوطن...

أشعر بالهزيمة.

فقدت الثقة كاملة. لا أحد يمثلني...

أتساءل: لماذا سجلت نفسي؟ هل من لم يتسجل كان على حق؟ هل اكتفي بتناول صحن التبولة وذكريات الزمن الجميل وصورتي تحت الأرزة ورقص الدبكة؟ هل أتفرج على أقدام الطاولة تغرز في جسد الوطن أم أنقلب على نفسي... أنا من كان يريد أن يقلب الطاولة على نفوسهم؟ هل ينتصرون.. هم وخططهم وتحالفاتهم.. هم وأطماعهم ومصالحهم وفسادهم؟

صوتي ليس لأحد. فصوتي ورقة بيضاء ستفضح هشاشة الطاولة...

سيفوزون نعم. ولكن بهشاشة لأنني لست وحدي. فمثلي كمثل مئات الالاف ممن سيرمون الأوراق البيض بازدراء في صناديق الاقتراع معلنين حجب الثقة.

*هناء حمزة – إعلامية مقيمة في دبي