هذا هو لبنان! - بقلم: هناء حمزة
جبلنا ماغازين – صوتنا
كتبت الإعلامية المقيمة في دبي هناء حمزة الآتي:
نبهني موقع "لينكد إن"Linked in إلى أنني اكملت 14 عاماً في دبي. جئت الى هذه المدينة لأنضم إلى محطة "سي أن بي سي-عربية" في عامها الأول... شهدتُ نهضة القناة كما شهدتُ نهضة مدينة دبي للإعلام وقسم من دبي... لم يكن في هذا الجزء من دبي غير مقهى "الهارد روك" ومجمع الحدائق السكني الذي افتتحناه معاً... مجموعة من الإعلاميين أتوا من كل الدول العربية لينضموا الى محطات "أم بي سي" والعربية" و"سي أن بي سي" و"تلفزيون دبي" وغيرها من المؤسسات الإعلامية التي اختارت مدينة دبي للإعلام مقراً لها واختارتنا ضمن فرقها. توزعنا على شقق "الحدائق" نختار منها ما نشاء، فكنا أول من سكن هذا المجمع وأول من دشن الحياة فيه... نلتقي ونحن نمارس رياضة المشي في المجمّع الرملي الذي لم يكن فيه غير الملعب الكبير باللون الأخضر... من يزورنا من قلب دبي "بردبي وديرة والجميرا" يومها كان يصفنا بأننا نسكن في قلب الصحراء... قلب الصحراء هذا هو اليوم دبي الجديدة!
المارينا، تلال الامارات، أبراج البحيرات، السهول، الينابيع، جزر الجميرا... كلها مجمعات شهدتُ نهضتَها بأم العين... طرق صحراوية تتحول إلى ورش عمل فمجمعات سكنية خلال أشهر، ثم إلى مناطق مأهولة بالسكان والمدراس والسوبرماركت والعيادات الصحية والمراكز التجارية.
هكذا مرت السنوات. 14 عاماً على بدء عملي، و14 عاماً ودبي تعمل بلا كلل ولا ملل... لا تخضع لأزمة مالية ولا يقضي على طموحها ظرف إقليمي... فقط إرادة بالنجاح ورؤية لخّصها حاكمها الشيخ محمد بن راشد في كتاب له كان أول ما قراته هنا في دبي... منه فهمت أنك يجب أن تكون بمستوى دبي حتى تقيم فيها أو ستجد نفسك في النهاية خارجها...
نعم. من يقيم في دبي يجب ان يكون مجتهداً كدبي... في ورشة عمل، لا يهدأ، يستيقظ مع فجرها وينام قبل فجرها... يعمل وطموحه السماء. وعذراً لمن لا يحب دبي ويصفها بأنها مصطنعة واستهلاكية فأنا أفهمه جداً، ولكن أقول له: "اصنع أجمل منها واخلق فرص عمل أفضل منها..". قد تكون استهلاكية ، نعم. فما يأتي من دبي يذهب في دبي، لأن دبي تفسدنا... تدلعنا... وتغرينا للاستهلاك وللتمتع بخدماتها الخمس نجوم. ولأن الإنسان بطبعه غير قنوع ويريد الأفضل والأكثر، فالأفضل كما الأكثر لا يأتيان بالمجان... ودبي تعلمك بأن لا شيء يأتي بالمجان وحتى الوقت له ثمن. وللحظة أجد نفسي قد أهدرت 14 عاماً من عمري... هكذا مجاناً!
قبل أيام قليلة عدت من إجازة أمضيت جزءاً منها في أوروبا والجزء الأكبر منها في لبنان.. وطني الحبيب.. وطني الأم. الوطن الذي تختنق كلماتي ويغصّ حلقي كلما أقلعت طائرة تحملني منه طيلة 14 عاماً...
جورة طرابلس التي فتحت قبل 14 عاماً ما زالت مفتوحة... مستوعب النفايات الذي تلفه بقايا الأكياس ويلعب بينها لفيف من القطط والفئران هو هو... إشتراك الكهرباء هو هو... ثرثرة رخيصة لشباب وقتهم لا قيمة له ما تزال كما هي... فهم لا يعملون وما زالوا يجلسون في أمكانهم ذاتها منذ 14 عاماً، يراقبون المارة ويثرثرون... وقلة قلة من وجوه جديدة نجحت في أعمالها بسبب دعمها لأطراف سياسية ودعم الأطراف السياسية لها... وفئة من موظفي الـNGO - وهي الفئة الأقرب إليّ - بعيدون عن السياسة وقريبون من الناس ومشاكلهم وحياتهم الاجتماعية مستقرة واوضاعهم الاقتصادية مقبولة ويجدون في عملهم الطيب فسحة أمل للبنان.غير ذلك، كلٌّ محسوب على منطقته وطائفته وعائلته وقربه من جهة سياسية ما تؤمن له مصالحه ويؤمن لها مصالحها على طريقة win win situation.
لا دركي طيّب في العالم مثل الدركي اللبناني... يخاف من أن يخالفك وأنت تخالف القانون. فأنت لبناني، إذاً أنت مدعوم! أطالبه بالتدخل في فرض النظام في مطار بيروت، فيبتسم وهو يتفرج على مجموعات تخترق صفوف مجموعات ويحاول بالحسنى. والحسنى هي مشكلة لبنان التي لا تنتهي... عدم المحاسبة والعفو والقلب الكبير الذي يريد أن يسامح كل كبير وصغير، خوفاً وليس حباً! أبتسم للدركي وأنا أرى شاباً يخترق الصفوف الطويلة على كرسي متحرك خصص لذوي الحاجات الخاصة... تبتسم سيدة تقف الى جانبي وتقول "إنها وسيلة جديدة يستخدمها "الواصلين" لتفادي الصف والازدحام"... أنسى فمي مفتوحا لدقائق وأنا لا أصدق ما أرى وما أسمع... ثم تعلّق ابنتي لين: "هذا هو لبنان"!
عمر "لين" من عمري في دبي... هنا تعيش وتدرس وتلعب وتصنع الأصدقاء... هنا تعلمت أن الهندي كالأميركي والمصري كاللبناني والملون كالأبيض... يجمع فيما بينهم مستوى علمي ومهني واجتماعي واحد إضافةً إلى أرض دبي.
"الناس بلبنان غير"، تقول لين وهي تذكر إطلاق إحدى القريبات اسم "سريلانكية" على الخادمة لأنها تحمل الجنسية السريلانكية.
معها حق لين، الناس بلبنان غير...
نصل الى روما... فأرى الشاب ذاته الذي اخترق الصف في مطار بيروت ملتزماً بالصف... أقترب منه لأسأل: "ليش هون إيه وهونيك لأ"؟ يجيب: "لأن هون في قانون، هونيك لأ.. هنا نحاسب إذا خالفنا القانون، هناك لا... "!
ارتكبت مخالفة واحدة طيلة 14 عاماً في دبي. دفعتُ ثمنها ربع راتبي يومها، فتعلمت أن أحترم القانون لأنني سأدفع ثمن مخالفتي له...
نحن اللبنانيون المغتربون... دفعنا ثمن مخالفاتنا من جيوبنا فتربينا... وللأسف هذا هو الصح!
دبي صح... لبنان غلط!
علمتني دبي الكثير خلال 14 عاماً.. علمتني أن الـ"لا" هي لا، ولا يمكن ان تتحول في بعض الأوقات الى "نعم" كما في لبنان. وعلمتني أن أي مخالفة للقانون يدفع ثمنها غاليا من راتب آخر الشهر، تماماً عكس لبنان. وعلمتني أن للوقت ثمناً غالياً يجب ألا يمر مجاناً، بعكس لبنان.. وعلمتني دبي أن الأصدقاء في الغربة هم العائلة. أما أكثر ما علمتني إياه دبي فهو أن الإرادة سبب أساسي للنجاح وأن لافرق بين لون أو جنس أو دين إلا بالعلم والعمل.
بصراحة، كل ما تعلمته في لبنان هو تماماً عكس ما تعلمته في دبي.
لم أهدر 14 عاماً من عمري مجاناً... فلقد تعلمت في دبي ما لم يكن بإمكاني أن أتعلمه في مكان آخر.
كان يجب ان أمضي إجازة في لبنان لأهضم ما تعلمته ولأعلم بأن لبنان حلم لا يتحقق وحسرة في قلوبنا، نحن من هجره على أمل أن يعود إليه يوماً ليجد أن إجازة قصيرة تكفي، فيعود أدراجه فاتحاً فمه لدقائق منتظراً تعليقاً كهذا ليوقظه: "هذا هو لبنان"... فيغصّ حلقه مع إقلاع الطائرة وتختنق الكلمات!
*هناء حمزة – إعلامية مقيمة في دبي