عن بيت الاستقلال.. بمناسبة تجديده بعد 71 عاماً من الأهمال
ارتبط تاريخ بشامون الحديث بمعركة تحقيق استقلال لبنان في عام 1943، وارتبط منزل الشيخ حسن الحلبي فيها بحكومة الاستقلال التي أتخذته مقراً لها حيث رفع أول علم لبناني رمزاً للحرية والاستقلال.
قصة بيت الأستقلال هي قصة الناس الذين
آمنوا بالوطن، وبذلوا التضحيات ببساطة وشفافية عين المياه، وشموخ السنديانة في
بشامون.
هذا البيت الذي حضن الآمال غير مرة، آن
الآوان ليعود، ويشهد من جديد، ويستعيد في كل سنة المعاني النبيلة التي جعلت منه بيت
الأستقلال.
في الطريق الى بيت الاستقلال
وعدت فرنسا اللبنانيين والسوريين بالاستقلال على مدى العشر سنوات الأخيرة من عمر الانتداب (1933-1943)، ولكن فرنسا لم تف ِ بوعودها أبداً. كان الشعب اللبناني وزعماؤه ضد الانتداب، ومنهم بشارة الخوري، رياض الصلح، عبد الحميد كرامي، صبري حمادة، مجيد ارسلان، كميل شمعون، عادل عسيران، صائب سلام وغيرهم. وكانوا، شعباً وقادة، مصممين على خوض معركة الاستقلال، واتحدوا في جميع المناطق قبل انتخابات صيف 1943، وفازوا بها.
ايام الأستقلال
21 أيلول 1943
كانت رئاسة المجلس معقودة لصبري حمادة،
وانتخب مجلس النواب الشيخ بشارة الخوري رئيساً للجمهورية، وعين رياض الصلح رئيساً
للحكومة الجديدة، وكل من حبيب ابو شهلا، سليم تقلا، كميل شمعون، مجيد ارسلان،
وعادل عسيران وزراء . وأوكلت إلى هذا الفريق مهمة الخروج بلبنان من قيود الانتداب
إلى فضاء الاستقلال.
7 تشرين الأول 1943
كان يوم جلسة إذاعة البيان الوزاري للحكومة
في مجلس النواب. وتقاطرت الجماهير تحتل ساحة النجمة منذ الصباح حتى ضاقت بها
السطوح والشرفات والشوارع المحيطة بالبرلمان.
حّدد البيان الوزاري أهداف حكومة رياض
الصلح، حكومة الاستقلال الأولى. وفيها ان الدستور يجب أن ُيعّدل وتحذف منه جميع
النصوص التي تشير إلى الانتداب، وأن لغة البلاد الوحيدة هي اللغة العربية، وأن
لبنان بلد ذو وجه عربي لا يحكم لا من الغرب ولا من الشرق. وقع البيان على سلطة
الانتداب وقع الصاعقة، وبادر المندوب السامي الفرنسي الجنرال كاترو في لبنان
وسوريا إلى إبلاغ الحكومة اللبنانية ان لا حق لها في تعديل الدستور، وأن هذا العمل
من طرف واحد يعتبر خرقاً للانتداب .وهدّد أعضاءها بالإعتقال اذا ما أنجزوا تعديل
الدستور.
كان الرد من الحكومة أن الأستقلال يؤخذ ولا
يُعطى.
8 تشرين الثاني 1943
دعا رئيس المجلس النيابي صبري حمادة إلى
عقد جلسة تعديل الدستور في 8 تشرين الثاني. وفي اليوم المذكور كانت القاعة تعج
بالجمهور. النواب في مقاعدهم، وسطوح المنازل والشرفات والشوارع المحيطة بالبرلمان
مكتظة بالشعب اللبناني. وضغط الجنرال غوتيه مدير الأمن العام على النواب، وطلب
منهم انتظار وصول الجنرال هيللو من القاهرة للبتّ بأمر التعديلات، وهددّهم بعدم
حضور الجلسة، ولكن باءت جهوده بالفشل.
حضر الجلسة ثلاثة وخمسون نائباً، وأقر
المجلس مشروع تعديل الدستور، وطهرهُ من جميع المواد والنصوص التي تذكر الانتداب.
ولما انتهى التصويت وقف النواب والنظارة وانشدوا بصوت واحد: كلنا للوطن.
9 تشرين الثاني 1943
حضّرت المواد الدستورية المعّدلة، ووقّعت
من رئيس الجلس صبري حمادة، ووافق على نشرها في الجريدة الرسمية رئيس الجمهورية
بشارة الخوري ورئيس الحكومة رياض الصلح،وصدرت الجريدة الرسمية في صباح الثلاثاء 9
تشرين الثاني وهي تحمل المواد المعّدلة.
خاف خليل تقي الدين، أمين سر المجلس
النيابي، على محضر التعديلات أن يسرقه أحد أو يضيع أو يحترق، فذهب مع يوسف ضو،
نائب البترون، إلى كنيسة الآباء الكبوشيين في باب إدريس، وخبأ محضر تعديل الدستور
في عمود تمثال العذراء، وبقي هناك لغاية 22 تشرين الثاني.
10 تشرين الثاني 1943
يقول الشيخ بشارة الخوري في مذكّراته
"وبينما كنا مجتمعين يوم الأربعاء صباحاً في مجلس الوزراء، تلقّينا من
المندوبية العامة مخابرة هاتفية بأنها ألغت دعوة الوزراء إلى حفلة العرض العسكري
بذكرى عيد الهدنة في 11 تشرين الثاني، فأبلغتها بدوري أنني لن أحضر ولن تشترك فيها
الفرقة العسكرية اللبنانية".
وازدادت هواجس اللبنانيين، واشتدّ قلقهم
جراء إشاعات عن إمكانية حدوث اصطدام بين الجماهير المحتشدة ورجال الأمن العام
الفرنسي بعد اقتحامهم دور الصحف الوطنية في بيروت ومصادرتها. وفي ذلك اليوم، ولدت
الجريدة السرية (إستفهام) وأصدرها نعيم مغبعب بعدما منعت السلطات الفرنسية الصحف
من نشر أخبار التعديل الدستوري. وعّمت المظاهرات في أنحاء البلاد، وأقفلت المدارس
والجامعات.
11 تشرين الثاني 1943 ليلة الاعتقال
داهمت قوات من البوليس منازل الشيخ بشارة الخوري رئيس الجمهورية، ورياض الصلح رئيس الوزراء، والوزراء عادل عسيران، كميل شمعون، سليم تقلا والزعيم الطرابلسي عبد الحميد كرامي واعتقلتهم جميعاً، واقتادتهم الى معتقل راشيا.
انتفض الناس في الشوارع والقرى والمدن ردّاً على أخبار الاعتقال، وعمّت المظاهرات بشكل عفوي المناطق اللبنانية، وأقفلت المدارس والجامعات، وأعلن الأضراب العام، وتم تمزيق صور ديغول في الساحات، واحتلت القوات السنغالية الشوراع الرئيسية، وأذاعت محطة راديو الشرق بياناً لسلطة الانتداب تقول فيه: " إن غاية الاعتقال هو تعطيل الحياة النيابية ونزع السلطات من رئيس الجمهورية والحكومة وتعليق الدستور وإقامة نظام حكم في البلاد بإمرة المفوض السامي الفرنسي". وعّينت سلطة الانتداب إميل إده رئيساً للدولة ورئيساً للحكومة ولم يتعاون أحد مع الرئيس المعّين". وعقدت في البرلمان جلسة مقاومة رغم حصار الجنود السنغاليين، وحضر الجلسة كل من الرئيس صبري حمادة وهنري فرعون وصائب سلام ومحمد الفضل ومارون كنعان ورشيد بيضون وسعدي المنلا، وسجلوا في مذكرة احتجاجهم الفاضح على التدابير المستنكرة التي أقدم عليها جنود فرنسيون مسلحون بحق فخامة الرئيس ودولة الرئيس وأصحاب المعالي الوزراء.
وتم الاتفاق على علم لبناني جديد، أرزة
خضراء في بياض محفوف من جهتيه بالأحمر. أمّا الأرزة فرمز لبنان الخالد.
أمّا الأبيض فلون السلام، وأمّا الاحمر
فلون الثورة. رسم العلم الجديد هنري فرعون وصائب سلام وخليل تقي الدين، ووقّع جميع
الحاضرين عليه باعتباره علم لبنان الحر المستقل.
خرج المجتمعون من دار البرلمان بقوة
السلاح، وتقرر ان يجتمع المجلس في الساعة الرابعة من 11 تشرين الثاني 1943 في دارة
صائب سلام في المصيطبة، وانعقد المجلس بحضور 38 نائبا من اصل 55 نائباً ، ووافقوا
على الوثيقة التي وضعت في الصباح، وفيها تأكيد على شرعية ودستورية الرئيس والحكومة
ومن يقوم مقامه من الوزراء في حال تعذر ممارسة الرئيس مهام منصبه. وفي السادسة من
مساء ذلك اليوم أعلنت محطة راديو الشرق، وهي في أيدي الفرنسيين، عن منع التجول
اعتباراً من الساعة السادسة والنصف، وسّجل أيضا انقطاع الاتصالات الهاتفية.
12 تشرين الثاني 1943
انعقد المجلس ثانية في دارة صائب سلام
وناقش الموقف. وجّدد الثقة بالحكومة. وحمل كل من حبيب ابو شهلا وصبري حمادة ومجيد
ارسلان وخليل تقي الدين بتكليف من المجلس الوثيقة التاريخية التي وضعت في البرلمان
ووافق عليها 38 نائباً الى منزل الجنرال سبيرز ممثل بريطانيا وسلمّوه إيّاها
ليرفعها الى حكومته. وأبلغ سبيرز الوفد استعداده لوضع طائرة حربية بريطانية
بتصرفهم تنقلهم إلى مصر لتفادي الصدام، وتأليف حكومة منفى. ورد الأمير مجيد:
" اننا مصممون على
المقاومة ( إمّا الاستقلال وإمّا الاستشهاد)". واضاف حبيب أبو شهلا
"نشكركم على عرضكم ونعتذر عن عدم قبوله". ثم كانت زيارة للقنصلية
العراقية، وحذّرهم القنصل تحسين قدري بان رجال الأمن العام الفرنسي جادون في
أثرهم. تشاوروا واستقر الرأي على سلوك طريق البحرفي اتجاه الشويفات. ركب حبيب أبو
شهلا والأمير مجيد سيارة، وركب صبري حمادة وخليل تقي الدين في سيارة رئاسة المجلس.
في الطريق أشار الأمير مجيد بيده لسيارة الرئاسة ان اتبعونا وصلوا إلى الشويفات،
ثم عين عنوب، فبشامون. فوجدوا في ساحة البلدة جمهرة كبيرة من أهل بشامون والجوار
تنتظرهم بسلاحها، ورهن إشارة الأمير مجيد أرسلان.
13 تشرين الثاني حكومة الأستقلال (بشامون بلدة الاستقلال)
وبعد، يسأل المرء لماذا بشامون؟ لأنها صدفة
من غير ميعاد بل خير من ميعاد، كما يقول خليل تقي الدين، ام لأنها منطقة نفوذ
الأمير مجيد ارسلان. في كتابه "ولادة استقلال"، يكشف منير تقي الدين
السر، فقد كانت بشامون المكان الوحيد الملائم لقربها من العاصمة، ولأنها امتداد
طبيعي لتلك القرى المجاورة من منطقة الغرب والجرد التي تشكل قوة عسكرية تتّكون من
الاهالي ومن المتطوعين في صفوف الجهاد والقتال. وليس لها غير طريق واحدة تسلك من
عين عنوب وتنتهي في بشامون. كان الناس متجمهرين في الساحة في شبه تنسيق مسبق بينهم
وبين الأمير مجيد، مسلحين وغير مسلحين، يتوقعون وصول الأمير مجيد في أي لحظة
للتزود بتوجيهاته وارشاداته.
في ذلك النهار اطلقت القوات الفرنسية النار
على مظاهرة طالبية أمام بعثة سبيرز في بيروت وسُجّل سقوط جرحى.
الحكومة وبيت الاستقلال ( بيت الشيخ حسين الحلبي)
كان حبيب ابوشهلا نائباً لرئيس الوزراء والأمير مجيد وزيراً للدفاع واعتبر الاثنان مجلس وزراء يقوم مقام رئيس الجمهورية... فكانت حكومة بشامون تتألف من حبيب ابوشهلا رئيساً ومجيد ارسلان عضواً والقائد العام للحرس الوطني . أمّا صبري حمادة فكان رئيساً لمجلس النواب ومؤازراً الحكومة في أعمالها ومقرراتها. وعينّت الحكومة خليل تقي مديراً بالوكالة لغرقة رئيس الجمهورية، واكتمل عقد المساعدين بوصول منير تقي الدين ونعيم مغبغب وأديب البعيني وهاني الهاني.
مارست الحكومة مهامها في بيت الاستقلال، وأثبتت مصداقيتها، وأصدرت قراراتها الحرة. فما هي قصة هذا البيت الذي لا يزال قائماً باعتباره رمزاً من رموز الاستقلال؟
وصل رجال الاستقلال إلى بشامون، واستقبلهم
الأهالي في منزل المختار الشيح ضاهر عيد، واقترح بعضهم على رجال الاستقلال الذهاب
إلى بلدة سرحمول لانها تبعد 3 كيلومترات عن بشامون، ولا طريق للسيارات إليها،ولا
يستطيع الفرنسيون من الوصول إليها.
وفي اثناء التداول وقف رجل مهيب اسمه الشيخ
حسين الحلبي من بلدة بشامون، وقال بكل جرأة وقوة مخاطباً رجال الاستقلال والجمهور:
"ان بيتي محايد وغير
مواجه وبعيد عن الأنظار وتفضلوا". فقال له صبري حمادة "يا شيخ بيهبطولك
بيتك". واجابه حسين الحلبي "اللي عمره بيعمر غيره وفداء الوطن".
Ø عيلتك واولادك يمكن يموتوا تحت الأنقاض،
Ø المهم يبقى لبنان.
وكان الشيخ حسين الحلبي والمختار ضاهرعيد
وشكيب الحلبي متفقين في الرأي والموقف وفي مؤازرة الثوار. وكان بينهم كامل وعادل
أبنا الشيخ حسين الحلبي.
وافقه جميع الحاضرين الرأي، وانتقلوا الى
بيت حسين الحلبي الذي أعتبر مقراً مؤقّتاَ للحكومة، ويقع البيت في اعلى البلدة،
ويتألف من جناحين احدهما للنوم، والاخر للاجتماعات والعمل. وفي هذا البيت رفع اول
علم لبناني. وكانت عائلة حسين الحلبي واولاده وجميع عائلات بشامون رجالاً ونساء في
خدمة ثورة الأستقلال ورجاله .
أوفدت الحكومة خليل تقي الدين الى الشياح
حيث يقيم الكولونيل فوزي طرابلسي، ودعاه للالتحاق بالحكومة الشرعية، وعينّته
الحكومة قائداً لقوى الامن الداخلي. رأى فوزي طرابلسي بعض الشبان وهم مسلحون
بالبنادق الحربية، وقال انا لا أقبل ان أقود عصابات . أنا لا أقود الا جنوداً
نظاميين.
وبقي الكولونيل بلقبه وبدون ممارسة
لصلاحياته، وعهد الى منير تقي الدين ونعيم معبغب وأديب البعيني في قيادة الحرس
الوطني وقيادة العمليات العسكرية والتنظيمية والميدانية. وتوزع المجاهدون على شكل
فرق انتشرت على حدود البلدة وأطرافها. وأقفلت الطريق بين بشامون وعين عنوب عند
السنديانة بالمتاريس والحجارة.
الحكومة وبيت الأستقلال (بيت الشيخ حسين الحلبي)
جسدت الحكومة في بشامون المقاومة اللبنانية، وحافظت على الجذوة مشتعلة ومتقدة، وجاهدت لإبقاء الشرعية قائمة في وجه اللاشرعية التي فرضها الانتداب. ولكن ما يجدر التوقف عنده هو الالتفاف والدعم والاحتضان الشعبي في بشامون والقرى المجاورة ومنطقة الغرب والجرد والشوف وعاليه وعموم مناطق لبنان لرجال الاستقلال وما يمثلون. كانت نساء بشامون يطبخن ويعددن الطعام في ظل سنديانة دار البيت، والرجال يتآزرون ويتناوبون على التدريب والمهام والوظائف. وكان الثوار في أوقات الاستراحة يتوزعون على بيوت بشامون والجوار. وغدت تلك البيوت مثل ثكنات لجنوة الثورة.
كلمات السر لدخول البيت
كانت حول البيت حراسة مشددة قوامها عشرة
شبان من البلدة، يعرفون مداخل بشامون وطرقاتها ومخارجها. وكان لهم في كل فترة كلمة
سر يجب ان يقولها المار أمام المبنى، فإذا جهلها يقبض عليه ويجري التحقيق معه،
وكانت كلمة السر تتألف من كلمتين.
في اليوم الأول كانت : بشارة – رياض.
وفي اليوم الثاني كانت : راشيا – بشامون.
الشهيد سعيد فخر الدين
روايات كثيرة تروى عن سقوط الشهيد سعيد فخر
الدين، ابن عين عنوب، المجاهد المتحمس للقتال والاستقلال. ويروي خليل تقي الدين ان
بشامون تعرضت مرتين للهجوم: معركة اولى كانت في 15 تشرين الثاني، إذ هاجم العسكر
الفرنسي مركز الحكومة الشرعية مرتين في الصباح وفي المساء، فردته وحدات الحرس
الوطني دون خسائر في الأرواح من قبلها، ولكن سقط من القوة الفرنسية المهاجمة قتلى
وجرحى.
والثانية في صباح 16 تشرين الثاني إذ نشبت
بين المهاجمين والحرس الوطني معركة قصيرة سقط فيها سعيد فخر الدين شهيداً، وسقط
بعض القتلى والجرحى من الجنود المهاجمين ، وأبلى رفاق سعيد فخر الدين، أديب
البعيني، منير تقي الدين ونعيم معبغب البلاء الحسن في تلك المعركة.
سقط سعيد فخر الدين في 16 تشرين الثاني بعد
ان هاجم أحدى المصفحات بجسده، ورمى قنبلة على المصفحة فجندله الرصاص، وروى بدمه
هضاب بشامون وجذور سنديانة عين عنوب.
وفي 17 تشرين الثاني صدر البلاغ رقم واحد
حول استشهاد سعيد فخر الدين.
العلم اللبناني
صباح الأحد 19 تشرين الثاني 1943، وصل الى
بشامون أربعة شبان من بيروت (مسلمين ومسيحيين) يحملون علماً جديداً صنعته أيدي
النساء في لبنان، دخلوا إلى سراي الحكومة في بشامون، ونشروه على الارض ليتأمله
الحاضرون. تناول حبيب أبو شهلا العلم، وقدمه الى الأمير مجيد أرسلان بصفته وزير
الدفاع الوطني، وقال له :
" أني بالنيابة عن
فخامة رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة وجميع المعتقلين في راشيا والسجون، أضع في
عهدتك علم لبنان الجديد الخفاق، وأطلب منك الدفاع عنه وحمايته".
فركع الأمير مجيد وقبّل العلم، وقال بتأثر:
"أقسم أن أذود عنه
بدمي، وأبذل في سبيله حياتي"
وارتفع العلم فوق سراي بشامون، علم لبنان
الحر المستقل اعتباراً من صباح الاحد 19 تشرين الثاني 1943.
رفض رجال الاستقلال التفاوض مع الحكومة الفرنسية
رفض رجال الاستقلال التفاوض مع الحكومة
الفرنسية، ورفضوا كل العروض التي قدمت إليهم، وتوحّدوا على كلمة سواء هي
الاستقلال.عرضت الحكومة الفرنسية على بشارة الخوري إطلاق سراحه إن هو تخّلى عن
رياض الصلح فرفض .وعرضت على رياض الصلح العرض عينه فرفض. ولم يتخل كلاهما عن رفاق
الجهاد. كما أوفدت الحكومة الفرنسية بيار بار، معاون مندوب المفوض السامي لمفاوضة
الحكومة في بشامون وأبلغه، حبيب أبو شهلا أن حكومة لبنان الشرعية ليست مستعدة
للمفاوضة إلاّ اذا أطلق سراح المعتقلين، وعادوا الى مراكزهم في سرايا لبنان .
وبعد يومين أوفدت الحكومة الفرنسية الجنرال
أوليفه روجيه وعاد خائباً، وأمام إصرار وصلابة موقف حكومة بشامون برفض المفاوضات
قبل إطلاق سراح المعتقلين . كان صمود بشامون يفتح الطريق لتحرير راشيا والمعتقلين.
واطلق سراح المعتقلين بعد مفاوضات صعبة
وعسيرة مع الفرنسيين في 22 تشرين الثاني 1943.
ورفعت الجماهير العلم اللبناني الجديد على
البلدية والسراي ومراكز الشرطة.
وكان النصر، وكان ثمرته استقلال لبنان
التام والناجز.
*******
أمّا بشامون، أمّا بيت المجاهد الشيخ حسين
الحلبي،أمّا أجواء بشامون وزمانها ومكانها فستبقى تُستعاد ما بقي الاستقلال،
وحسبنا انه باق بقاء دوران الأفلاك.هذا البيت كان غير مرة مقر الدولة والحكومة
والبرلمان، وفيه صدرت القرارات الحّرة التي جسدت فكرة الاستقلال ووحدة الشعب
وآماله. في هذا البيت رفع العلم اللبناني لأول مرة لينتصب فوق المقر الذي اتخذته
الحكومة مركزاً لها في بشامون.
وإليه شخصت الابصار من جميع القرى وبيروت
والبقاع والجبل والشمال والجنوب، وفيه نشطت الاتصالات، وتعاضدت النفوس الحرة،
وتعاهدت لأجل الحرية والكرامة والاستقلال.
نحتفي بهذا البيت اليوم وما مثله من قيم
وطنية ومعنوية ورمزية في زمن معركة الاستقلال. نعيد إليه الاعتبار، ونرفع عنه حيف
الاهمال والظلم والنسيان. ونعود إليه بالروح عينها، والمبادرة نفسها، والشوق ذاته
،والأحلام إيّاها.
كان هذا البيت غير مرة بيت الجمهورية، ومقر
الحكومة الحرة، وبيت الشعب، وبيت الوحدة الوطنية، وبيت الاستقلال . كان بيتنا
جميعاً.
فلنقلها إذن مع الشيخ حسين الحلبي مجدداً
" تفضلوا....".
*جريدة النهار - سليمان بختي وجهاد حسان