كوكبا التي أخرج المسيح من أرضها ماءً وصلّى في بساتينها.. متى تتحول مقصداً للسياحة الدينية؟
بلدنا - جبلنا ماغازين
(بالتعاون مع المنبر الثقافي في الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم)
كوكبا هي قرية صغيرة هادئة، تتغاوى رائعة على ضفاف نهر الحاصباني، و تتربع على هكتارات قليلة من السفوح الغربية لجبل الشيخ (حرمون) في موقع مواجهٍ تماماً لهذا الجبل العظيم. تقع على الطرف الجنوبي الشرقي للبنان، وتتبع إداريا لمحافظة النبطية - قضاء حاصبيا.
يعود تاريخها بحسب العلماء لحوالي عشرة آلاف سنة قبل الميلاد. اسمها مشتق من الآرامية القديمة ويعني الكوكب المستدير، أو نجمة الصباح المدوّرة (كو = نجمة ، كب= مستدير)، ويرجّح أن هذه التسمية مردّها لكون هذه القرية هي الوحيدة التي تقع في واجهة مباشرة لجبل حرمون في هذه المنطقة، بحيث أنها أول بقعة يغمرها نور الصباح عند بزوغ الشمس من وراء الجبل، فأسموها بنجمة الصبح.
لا شك أن كوكبا تشكل اليوم هاجساً سياحياً وثقافياً لأبنائها كما للدولة اللبنانية. فأبناؤها ينشطون بالتعاون مع بلديتهم والوزارات المعنية، لتحويل قريتهم مقصداً للسياحة الدينية والبيئية والتاريخية، الأمر الذي تستحقه كوكبا بجدراة. فقد اكتشف العلماء فيها عام 1964 أدواتً للصناعات الصوانية، كما اكتشفوا المغاور والنواويس والأجران وجدرانيات حجرية كثيرة وآباراً صخرية تعود كلها لحقبات متداخلة من تاريخها العميق.
يتناقل أبناء البلدة من جيل إلى جيل أن السيد المسيح أمضى فترات طويلة من حياته في منطقة كوكبا وتلالها و"جبل شيخها"، ففي إحدى تلال هذا الجبل حصلت واقعة التجلي المذكورة في الإنجيل المقدس مع المسيح (إنجيل متى 1:17-8)، وفي كوكبا كان له أقرباء من والدته فكان يزور القرية باستمرار، وفي بستان زيتونها أمضى ليالي صلواته، وفي محيطها غرس عصاه يوماً وأخرج ماء ليشرب مع أمه وتلاميذه في احدى زياراته للقرية، وهو ما يعرف حتى يومنا هذا بـ"نبع المسيح". ويتضمن كتاب "حرمون من آدم الى المسيح" للدكتور نبيل أبو نقول (وهو من أبناء البلدة) معلومات وحقائق مثيرة عن البلدة لا يتسع المجال لنشرها هنا.
غنيّ عن التذكير ان موقع هذه القرية استراتيجي بامتياز بالنسبة للعالم القديم، فهي تشرف على "طريق الحرير" أو طريق دمشق كما يسمونه في يومنا الحاضر، وهو معبر القوافل الإلزامي من سواحل صور الفينيقية و الجليل الأسفل ونواحي بحيرة طبرية إلى البقاع الغربي والبقاع الأوسط، ومنه الى نواحي حُمص أو دمشق. وها هي آثار أحد آلهة المسافرين القدماء، ويدعى النبي هرمس، شاهدة فيها على كون كوكبا محطة للمسافرين في قديم الأزمنة.
كما ان تخومها مع جبل حرمون جعلها موطئَ استراحة إلزامياً لكل قاصد لهذا الجبل، نظراً لعلوه وهيبته و"حراسته" لكافة منطقة الشرق الأدنى، من الاْردن الى دمشق فشمال فلسطين ولبنان بأكمله، إذ يستطيع المرء رؤيتها كلها بالعين المجردة من مرتفع يربو على 2814 متراً، هي قمة هذا الجبل.
تبعد كوكبا عن عاصمة البلاد حوالي 110 كلم، يمكن الوصول إليها من ثلاث طرق:
1- صيدا، النبطية، مرجعيون، كوكبا
2- البقاع، المصنع، راشيا الوادي، مرج الزهور، نبع الحاصباني، كوكبا
3- صيدا، جزين، كفرحونة، قليا، برغز، كوكبا
يصل ارتفاع كوكبا عن سطح البحر الى 850 متراً في أعالي البلدة ، وعدد أبنائها حوالي ثلاثة آلاف نسمة مسجلين في لوائح القيد، نصفهم تقريباً في لوائح الانتخابات. ويتوزع أبناؤها ما بين العاصمة بيروت وبلدان الانتشار، وبشكل خاص في البرازيل حيث توجد جالية ضخمة من أبناء البلدة هاجر معظمهم أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين قبل الحرب العالمية الأولى. وهناك جاليات أخرى تعد بالمئات في كل من كندا والولايات المتحدة وفرنسا وأوستراليا. ولمغتربي البلدة حضور لافت في قريتهم صيفاً.
يتميز أهالي كوكبا والمتحدرون منها في أصقاع العالم بعشقهم لبلدتهم، وقد برعوا بالتقصي عن تاريخها وفهمه عميقاً، كما يتميزون بفخرهم بالانتماء إلى أرض أجدادهم وأسلافهم، إذ يلاحظ اهتمامهم بأدق تفاصيل قريتهم والمحافظة عليها. من عائلاتها نذكر: أبو نقّول، قلعاني، مغامس، عبيد، سعد، خوري، فارس، ونهرا. وكذلك عباس وجبور ومتى وحنا والياس. وتجدر الاشارة إلى أن آل نهرا وآل مغامس لم يبقَ منهم أحد في كوكبا، بل أصبحوا جميعاً في المهجر.
لا زالت كوكبا تحافظ على الطابع القروي اللبناني في يومياتها، فلا صناعات ولا تجارة ثقيلة فيها، بل تنشط للاعتناء باشجار الزيتون وعصره لاستخراج أفضل أنواع الزيت القروي، كما تعوّل على إبراز نفسها -قريبا بإذن الله - كمعلم سياحي وتاريخي متقدم في لبنان.
جدير بالذكر أن شجر الزيتون يغطي معظم أجزاء القرية ويتميز بـ"شيخوخته الفتية"، فعلى الرغم من أن كوكبا تمتلك اكثر من 130 شجرة زيتون معمرة يزيد عمرها عن 6000 سنة، لا زالت هذه الكائنات الوفية، تزهر وتثمر وتعطي حباتها بسخاء كما لو أنها في ربيع عمرها.
في التاريخ الحديث، لكوكبا ذكريات مؤثرة في ضمير الشعب اللبناني، ففي آخر يوم من تموز عام 1978، خرجت قافلة ضخمة للجيش اللبناني من البقاع الأوسط متوجهة إلى الجنوب عبر طريق راشيا - مرجعيون، وذلك تنفيذا لقرار الامم المتحدة رقم 425 الذي أمر إسرائيل بالانسحاب من لبنان اثر اجتياحها لأراضيه وتسليم مواقعها للجيش اللبناني. همّ لبنان لتنفيذ القرار الدولي... وعندما وصلت طلائع الجيش الى كوكبا، فوجئ الجنود بسقوط صواريخ العدو عليهم في خيانة صارخة للقرارات الدولية، فكان أن توقف جيشنا في هذه البلدة لمدة طويلة، فنسجت على اثرها علاقة وثيقة بين كوكبا والجيش، لا زالت ذكراها نابضة في ضمير من عاصر تلك الحقبة من أيّام لبنان الصعبة.
*إعداد: المنبر الثقافي في الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم بالتعاون مع جبلنا ماغازين