Follow us

image

بلدة عبَيه... حاضرة التنوخيّين ومركز الثقل في حقبات وازنة من تاريخ لبنان

بلدنا - جبلنا ماغازين

(بالتعاون مع المنبر الثقافي في الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم)

لا جدال حول أهمية هذه البلدة وحضورها وتميّزها في منطقة جبل لبنان، إذ لعبت عبَيه أدواراً سياسية متقدمة في تاريخ لبنان الحديث. فعلى الرغم من اكتشاف آثار قديمة تعود إلى حقبة الفينيقيين في أحد حقولها، إلا أن عبيه تعتبر حديثة المنشأ والولادة نسبياً، فهي ابنة الألف سنة ونَيَّف.

عندما وصل العباسيون الى السلطة واعتمدوا بغداد عاصمة لهم، بادروا فوراً الى توطيد الأمن وحماية الحدود، فأوفدوا في أواخر القرن الثامن، بعض القبائل العربية المتمرسة إلى أطراف السلطنة، لحماية "ثغورها" والتنبه لمداخلها، فكان أن وصلت قبيلة التنوخيين من شمال البادية العربية وجنوب الاْردن الى غربي بيروت، وتحديداً إلى التلال المشرفة على الساحل الجنوبي لعاصمة لبنان اليوم. اختار التنوخيون الأوائل الاستقرار على مرتفع قبالة الشواطىء، كثيف الأشجار والاجمات ، بحيث لا تنكشف مضاربهم من قبل السفن الإفرنجية المتربصة بعرض البحر، ويصلح بالوقت عينه كمنارة مرتفعة تكشف الساحل أمام النواطير والأنفار. فولدت "عبيه"، العبيّة المعبأة أشجاراً وأجمات كثّة خضراء. إنها اسم على مسمى: عبيه.

بعد أن كانت عبيه عاصمة للإمارة التنوخية ومركز الثقل في حقبات وازنة من تاريخنا، هي اليوم تتبع إدارياً لمحافظة جبل لبنان - قضاء عاليه في الجمهورية اللبنانية. لها علينا الكثير، ففيها ترعرع الأمير فخرالدين المعني الكبير، بعد ان اصطحبته أمه الى "قريتها" بعيد اغتيال والده حين كان يافعا في الثانية عشرة من عمره، "فتراجعت" العائلة عن الواجهة وأتت إلى عبيه، ليتمرس الأمير الصغير فيها بمشاكل الناس ويومياتهم المتواضعة، لحين بلوغه سن الرشد واستلام تركة والده.

تتمدد عبيه على سفح جبل المطيّر او "مطاير عبيه". حيث، من قمة هذا الجبل، أُطلقت لأول مرة تسمية "الشوف" على احدى الأقضية المجاورة. فعند وصول الأمير "معن"، أبي السلالة المعنية، خاسراً كل أملاكه في حلب أمام البيزنطيين عام ١١٢٠، اصطحبه الأمير "بحتر التنوخي" إلى قمة المطاير ليرى وقال له: شوف وأنا أعطيك". فاختار معن الأراضي الممتدة ناحية بعقلين وأسس فيها إمارة المعنيين، التي لعبت لاحقاً أكبر الادوار في تاريخ "جبل لينان" الحديث وأصبح اسمها اليوم: "قضاء الشوف".

"المطاير" هو حدود عبيه الشرقية، أما من ناحية الشمال فتحدها قرية عين كسور، و من الجنوب كفرمتى ومن الغرب بلدة دقّون. تعلو البلدة حوالي ٨٠٠ متر عن سطح البحر، فتأتيها الثلوج في فصل الشتاء، لتشكل لوحة فنية رائعة، بين بياض ثلجها وخضار أشجارها وزرقة البحر الذي تطل عليه من بعيد.

تبعد عن بيروت ٢٩ كلم، تصلها صعوداً باتجاه عاليه، فسوق الغرب، شملان، قبرشمون، عين كسور، عبيه. أو من بيروت وصولاً الى الناعمة، ثم الدامور، صعودا نحو بعورتا، دقّون، عبيه. أو من ناحية خلدة، فعرمون، صعوداً نحو قبرشمون، ثم يميناً نحو عين كسور، فعبيه.

من عائلات عبيه المعروفة نذكر: آل الجردي، حمزه، الخوري، جمال، حداد، القنطار، سركيس، أمين، وهبه، جابر، فرج ، كنعان، ريدان، غريّب ونكد . معروف عن أبناء عبيه نشاطهم اللا محدود ومثابرتهم على أعمالهم، إذ نجح أكثرهم في المغتربات في كافة الحقول التي اعتمدوها، خاصة في القطاع الزراعي. ويذكر أن زراعة دود القز واستخراج الحرير كانت قديماً من ركائز "عاصمة التنوخيين" كما لبنان كله، أما زراعة الكرمة و أشجار التين والحمضيات ، فلا زالت حتى أيامنا هذه تعتبر وافرة في عبيه وجوارها، ناهيك عن الخضار على أنواعها والسمّاق و حبوب الصنوبر.

في هذه البلدة، نلاحظ حضوراً لافتاً لكثير من المعالم الثقافية والاجتماعية والتجارية التي قد يندر وجودها في القرى الاخرى المجاورة، و هذه الظاهرة بحد ذاتها - إن دلت على شيء - فعلى بروز عبيه في مسرح السياسة اللبنانية وفرض وجودها كمركز ثقل دون منازع حتى الأمد القريب من تاريخ جيل لبنان. فها هي طلائع الإرساليات الأوروبية تحط في عبيه دون غيرها، وكذلك المدرسة الداوودية التي تحولت اليوم الى معهد للتعليم العالي، و المدرسة الإنجيلية التي تحولت لاحقاً الى الجامعة الأميركية في بيروت، ثم الجامعة اللبنانية وخلوات مناسك الدروز، و دير الرهبان الكبوشيين، و معبد السيد عبدالله ، ودير القديس يوسف للراهبات البلديات والسوق القديم الذي لا تزال آثاره قائمة حتى يومنا هذا... والكثير غيرها من حواضر العلم والدين والسياسة والتقدم، تنتشر في طول عبيه وعرضها لتقطع الشك باليقين أننا أمام بلدة لبنانية متميزة.

يتوزع أبناؤها ما بين قريتهم مسقط رأسهم وبين بيروت العاصمة، كما بلدان المهجر، ككافة بلدات وقرى لبنان، ويسجل حضور لافت لهم في الخليج العربي كما في دول أميركا الجنوبية، مثل كولومبيا وفنزويلا تحديداً، تليها أوروبا فأستراليا وأميركا الشمالية.

*إعداد: المنبر الثقافي في الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم بالتعاون مع جبلنا ماغازين