تاريخ الهجرة اللبنانية: مراحلها وأسبابها ومعاناة المهاجرين الأوائل
نشر المقال في "جريدة السفير" - 23 أيلول 2015
في كتابه الصادر العام ٢٠٠٤ بعنوان «الهجرة اللبنانية: واقع وآفاق»، يحدد المدير العام لوزارة المغتربين هيثم جمعة خمس مراحل للهجرة اللبنانية الحديثة التي امتدت من العام ١٨٦٠ وحتى العام ٢٠٠٢. الا أنه يمكن إضافة مرحلة سادسة بدأت بعد العام ٢٠٠٥ وهي مستمرة حتى اليوم، وأبرز اسبابها الظروف السياسية والأمنية وتضاؤل فرص العمل للشباب اللبناني.
تبدأ المرحلة الاولى عند جمعة في منتصف القرن التاسع عشر وتمتد الى بداية الحرب العالمية لأولى العام ١٩١٤. وكان لبنان في هذه المرحلة يخضع لحكم المتصرفية، وقد شهدت هذه المرحلة تناميا للهجرة من لبنان وسوريا باتجاه الولايات المتحدة الاميركية والبرازيل والأرجنتين، واتجهت موجة أخرى صغيرة الى مصر، وتكونت من المثقفين الذين عمل الخديوي اسماعيل على استقطابهم ومن بعده البريطانيون في اداراتهم. كما وصلت موجة ثالثة الى كندا والمكسيك واسترالي ونيوزلندا والسنغال في افريقيا. وكان من أسباب هذه الهجرة تردّي الأوضاع السياسية والاقتصادية اضافة الى الجفاف وانتشار الأمراض والأوبئة.
كذلك ساعدت أخبار النجاح التي حققها المهاجرون الأوائل في الأميركيتين في تنامي هذه الهجرة وتشجيع اللبنانيين على الالتحاق بهذه البلدان. وقدر عدد المهاجرين من جبل لبنان في هذه الفترة بنحو مئة ألف مهاجر، أي ما يقارب ربع عدد سكان لبنان في ذلك الوقت.
أما المرحلة الثانية فقد امتدت من العام
١٩١٤ وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية. فقد أودت المجاعة خلال الحرب العالمية
الأولى بحياة الكثير من ابناء لبنان. فضلا عن انتشار الطاعون وفرض التجنيد
الإجباري من قبل العثمانيين. وكانت حركة الهجرة قد توقفت خلال سنوات الحربين بسبب
الحصار البحري الذي فرض على لبنان. وما أن انتهت الحرب حتى أقبل اللبنانيون على
الهجرة بعد أن وردت أخبار الغنى السريع الذي حققه المهاجرون فضلا عن توفر فرص
العيش الرغيد.
وكانت الولايات
المتحدة واستراليا فرضتا قيودا على الهجرة اليهما فاتجه المهاجرون بصورة رئيسية
الى أميركا اللاتينية وغرب أفريقيا.
المرحلة الثالثة امتدت من الحرب العالمية الثانية حتى بداية الحرب اللبنانية العام ١٩٧٥،حيث انطلق تيار الهجرة باتجاه أرض جديدة هي السعودية ودول الخليج العربي. وكان لاكتشاف النفط في هذه البلدان أثره البالغ في ذلك حيث بدأت دول الخليج بإقامة المشاريع التنموية ما استدعى وجود شركات عالمية كبرى في المنطقة كانت بحاجة الى الأيدي العاملة والمهارات والخبرات التي لم تكن متوفرة في السوق المحلية. وقد لعب المتمولون اللبنانيون دورا بارزا في هذا المجال فأنشأوا الشركات العقارية الكبرى ونشطوا في حقل المقاولات واستقدموا آلاف العمال اللبنانيين الى دول الخليج للعمل في مشاريعهم. وتنامت هذه الحركة في الستينيات والسبعينيات في ظل الطفرة النفطية وارتفاع الاسعار. وقد ترافقت هذه الهجرة مع تغيير نوعي في المستوى الثقافي وبدأ الحديث عن هجرة الأدمغة خصوصا الى الولايات المتحدة ودول الغرب وذلك بعد صدور قانون الهجرة والجنسية الأميركي، كذلك تزايد عدد المهاجرين الى استراليا.
المرحلة الرابعة امتدت من بداية الحرب الأهلية اللبنانية وحتى نهايتها بين العامين ١٩٧٥ و١٩٩٠، حيث هاجر الكثير من اللبنانيين هربا من الحرب، ووصل عدد المهاجرين في هذه الفترة الى أكثر من ثمانمئة ألف لبناني عاد البعض منهم وتوزع الباقون على البلدان العربية وأميركا واوروبا وأفريقيا واستراليا. واشتدت حدة الهجرة في هذه المرحلة مع بداية التضخم المالي وانخفاض الأجور بسبب تدني سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي.أضف الى ذلك كله تصاعد الاعتداءات الاسرائيلية واحتلال الجنوب اللبناني ما دفع الكثيرين من ابنائه الى الهجرة.
المرحلة الخامسة بين انتهاء الحرب الأهلية
وتحرير لبنان بين العامين ١٩٩٠ و٢٠٠٢، وهي شهدت نوعا من الاستقرار. لكن تضاؤل فرص
العمل دفعت بالكثيرين الى هجرة الكثيرين من الشباب والكفاءات في كل الاتجاهات.
منذ العام ٢٠٠٢ شهد
لبنان أحداثاً وتطورات كبيرة، كان منها اغتيال الرئيس رفيق الحريري الذي أحدث
زلزالا في البلد ومحيطه، وانسحاب القوات السورية من لبنان، وكذلك العدوان
الاسرائيلي على لبنان في تموز ٢٠٠٦، فضلا عن سلسلة من الأحداث الأمنية والسياسية،
وإخفاق الطبقة السياسية في انتخاب رئيس الجمهورية مرتين وعدم إجراء الانتخابات
النيابية والتمديد لمجلس النواب مرتين وشغور الموقع الرئاسي، إضافة الى اضطراب
المنطقة بفعل ما سمي «الربيع العربي»، كل ذلك ألقى ظلالا من اليأس والإحباط والشك
في امكان استقرار لبنان، ما دفع الكثيرين الى الهجرة من جديد، خاصة في غياب فرص
العمل لآلاف الخريجين الجدد. وفي ظل التطورات التي تشهدها المنطقة وانعكاساتها على
لبنان، فضلا عن ضيق فرص العمل، يبدو أن لبنان متجه الى مراحل جديدة من الهجرة.
أسباب الهجرة سياسية واقتصادية واجتماعية
الحروب لعبت دورها البارز في تزخيم الاغتراب
بدأ الاغتراب اللبناني الحقيقي والواسع عملياً العام ١٨٦٠ واستمرّ حتى العام ١٩٢٠ تاريخ إنشاء دولة لبنان الكبير، فتضاءل بعد هذا الإعلان نسبيا، وعاد ونشط في منتصف سبعينيات القرن الماضي، وتحديدا مع بداية الحرب اللبنانية وما زال مستمرا حتى اليوم.
لكن لكل سبب علة، ولكل هجرة دوافع، فالانسان، مطلق انسان، لا يقوم بعمل، خصوصا إذا كان من نوع توضيب أمتعته والبحث عن وطن بديل، إذا لم يكن قد بلغ ذروة اليأس من جدوى بقائه في موطئ عمره.
السبب الأول والأهم للهجرة اللبنانية كان كسب الرزق والتجارة، وتدريجيا مع مرور العقود، تحولت الهجرة الى اغتراب طويل طويل. واشتدت في العصور الوسطى، خصوصا في منطقة جبل لبنان، التي ارتاد بعض أهاليها عواصم التجارة العالمية مثل بيزا وجنوا ونيس والبندقية. وتحولت الهجرة في عهد المماليك الى هرب من الاضطهاد الديني، والوجهات الجديدة كانت القدس ورودس ومالطا وقبرص.
لعبت الحروب دورها في الموضوع، بعدما أصبح لبنان مسرحاً لأحداث عبثية وفتن وثورات كانت غالبا خارجية الامتداد، ولاقى أهل هذا البلد الجميل ضغوطات وعذابات وواجهوا الضيق المعنوي والمادي، ما اضطّرهم إلى اتخاذ خيار الهجرة هربا من واقع أليم
في العقدين الأول والثاني من القرن العشرين شهدت حركة الهجرة اللبنانية إلى القارة الأميركية الكثير من التطور. ففي البداية كانت الهجرة تتم عشوائياً، بمعنى أن المهاجر ما كان ليهتم كثيراً بالمكان الذي سيستقر فيه، ذلك أن جل همه كان محصوراً بالتخلص من حالة الفقر والظلم التي عاشها في موطنه الأصلي. لذلك كان يرتضي الحلول في أي مكان، في مقر إقامته الجديد، شرط أن يوفر له هذا المكان ظروف العمل المعقولة، ويدر عليه ربحاً ما يرسل جزءاً منه إلى ذويه، ويحتفظ بالباقي لتكوين رأسمال ربما يكون زوادة له إذا ما صمم على العودة، ذات يوم، نهائياً إلى مسقط رأسه.
الأسباب الجغرافية: يقع لبنان في نقطة التقت عندها عبر التاريخ مختلف الشعوب، وانفرد بموقع جغرافي مهمّ كجسر يربط الشرق بالغرب. وبسبب موقع لبنان حيث الجبل والبحر والسهول الضّيقة والشواطئ الصخرية... وتركيبة طوبوغرافيّته، فَرَضت عليه ان ينفتح على العالم، فساهمت في خلق الشخصية اللبنانية الفريدة في الحب للحرية، والرغبة في المغامرة. فتولّدت رغبة الهجرة والإتجار، وهانت عليه أمور ترك البلاد والاغتراب.
الأسباب الاقتصاديّة: ان أول سبب يدعو الى الهجرة هو الفقر الذي يهرب منه الإنسان في سبيل البقاء على قيد الحياة. كانت الزراعة في لبنان تُعتبر المورد الأساسي الذي كانت تعتمد عليه أكثرية السّكان. وقد ظلّت الزراعة عاجزة عن تأمين الإنتاج المطلوب، لأسباب عدة أهمها ضيق الأراضي الزراعية ضمن مناطق جبلية صخرية وجهل الفلاح للطرق الزراعية المتطورة، فضلاً عن تواتر فترات الجفاف. وكانت عمليات الإقراض نادرة، وتتمّ خفية، وبشروط باهظة. ما أجبر الفلاح اللبناني على بيع غلّته لدائنه بأبخس الأسعار، فضلا عن الأمراض التي كانت تصيب المحاصيل الزراعيّة وتسبّب للفلاحين أضراراً جسيمة.
فُرضت على الفلاحين ضرائب كثيرة كانت تُستَوفى مضاعفةً عمّا هي عليه، فاُكره الجميع على دفعها، وقامت ثورات في مختلف المناطق اللبنانية رافضة المشروع الضريبي. كانت هذه الضرائب تُرهق الفلاح وتُثقـله بحيث كان يدفعها كل شخص يتراوح عمره بين ١٨ و٦٠ سنة. ولم يقتصر التذمّر على الضرائب الفاحشة فقط، بل شمل أيضاً الطريقة الكيفية والفظّة في تحصيلها ما أضّر بمصالح الفلاّحين وزاد من إرهاقهم، مما شجّعهم على مغادرة البلاد.
الصناعة: اقتصرت الصناعات التي كانت سائدة في المجتمع اللبناني على أعمال عائليّة صغيرة وبسيطة وعلى أشغال يدويّة وحِرَفيّة بدائيّة مثل غـزل الحرير والحياكة الصّوفيـّة والقطنيـّة والدّباغة وصناعة الصّابون والسكافة والخياطة وتقطير الكحول واستخراج الزيت. أما صناعة الحرير فكان لها أهميـّة كبرى في الاقتصاد الوطني، اذ صرف الفلاّح اللبناني اهتمامه الى تربية دودة القزّ، باعتبار موسم الحرير من أكبر الدّعائم الاقتصاديـّة، حيث شكّل نسبة ٦٠٪ من واردات الجبل، وأصبح الإنتاج يُصدّر معظمه الى فرنسا.
وبالرغم من ذلك، أخذت تربية دودة القزّ ومعها صناعة الحرير بالتقهقر والانحطاط، ويعود السبب في ذلك الى عدة عوامل أهمها الأمراض التي أصابت أغراس التوت ودودة القـزّ، وجهل المزارع والصناعي للطرق الحديثة في تربية وصناعة حلّ الحرير والنسيج، ومزاحمة المنسوجات الإفرنجيـّة الدقيقة الصنع والرخيصة الثمن والجميلة المنظر للمنسوجات الوطنيـّة اللبنانيـّة. وأسهم شقّ قناة السويس في مصر، في العام ١٨٦٩ في فتح الباب أمام الشرق الأقصى، فزاحم الحرير الصناعي الياباني والصيني الحرير اللبناني في أسواق أوروبا.
ولهذه الأسباب، خسر فريق من التجّار أمواله وأوقف بعض الصناعيّين معاملهم، ما قلّل من عدد المعامل والأنوال في القرى التي كانت مشهورة بصناعة الحرير مثل بعبدات، التي كان يوجد فيها ١٢ معملاً للحرير (كرخانة) قبل الحرب العالميّة الأولى. وبذلك عمـّت موجة من البطالة، وعزم فريق من اللبنانيين على الهجرة.
التجارة: لقد تحّول قسم من اللبنانيين الى العمل في قطاع التّجارة التي ترتبط بموقع البلاد الجغرافي والطبيعي، وانما بدا انّه لا يمكن الإعتماد عليه بحيث لا منفذ بحري للجبل ولا مواد كافية للتجارة، وميدان العمل ضيـّق، ما دفع بالكثير الى مغادرة وطنهم وهجره من أجل تأمين القوت اليومي والاسترزاق. فضلاً عن ذلك، كانت المواصلات رديئة وسيّئة وقليلة، والانتقال يتمّ على ظهور الحمير أو البغال أو الجِمال... وقد تجنب الكثيرون استعمال العربة خوفاً من اللصوص وقطّاع الطرق ورجال السلطة.
الأسباب السياسيّة: كان لاتجاهات السياسة العثمانية على لبنان أثر بيّن في هجرة أبنائه، وكان تعدّد الأديان والمذاهب يتحكّم في ضعف جبل لبنان. استفاد العثمانيّون من ذلك، واتبعوا سياسة فرّق تسد، وزرعوا بذور الفوضى والتفرقة بين الطبقات الاجتماعيّة والمذاهب الدينيّة، وأصبح الجبل مسرحاً للمذابح والفتن. وفي العام ١٨٦٠ حصلَت مجازر بين المسيحيّين الموارنة خاصةً والدروز، شمَلت لبنان كلّه تقريباً، فكانت النتيجة قتل الآلاف ، ونهب وتخريب وتدمير مئات المنازل والمدارس والأديرة والكنائس والقرى.
وعلى أثر هذه المجازر، تدخّلت بعض الدول الأوروبيّة وعقدَت مع السلطنة العثمانيّة تسويةَ في حزيران ١٨٦١، صدر بموجبها نظام عُرف بالبروتوكول، قضى بسلخ مناطق الشمال والجنوب والبقاع وبيروت الغنيّة بسهولها الزراعيّة، عن منطقة جبل لبنان الجبليّة الصخريّة، وإخضاعها للحكم المباشر للسلطنة العثمانيّة، كما تم الاتفاق على تعيين متصرّف مسيحي غير لبناني على جبل لبنان. وبذلك، أصبحت الطائفيّة أساس كلّ شيء في نظام الحكم، ما أَجبَر السكّان على المجاعة أو الهجرة. وقد فُرضت ضرائب جديدة على الجبل، وفُرض التجنيد الإجباري في المناطق الخاضعة للسلطنة العثمانيّة، أي باستثناء منطقة جبل لبنان،
كما فُرضت تذاكر عثمانية عليهم في محاولة
لتتريك اللبنانيّين، مما ساهم في هجرة الكثير من اللبنانيّين.
ولعلّ أحسن تصوير
لتلك الحالة، ما جاء على لسان أحد الذين هاجروا الى البرازيل العام ١٨٩١ في رسالة
وجّهها الى ذويه يقول فيها: «إننا نرى الآن أنفسنا احراراً في بلاد الحرية، نجاهر
في أقوالنا وأعمالنا، ولا نخشى لومة لائم. نسافر من بلد الى آخر، ونحمل معنا المال
كأننا في حضن أمّنا، ولا يداخلنا فكرة ان نلتقي قطّاع الطرق بوادي القرن (بين
سوريا ولبنان) ولا خيّالة الأكراد في المعلّـقة (قرب زحلة، عاصمة محافظة البقاع)
ولا من يعتدي علينا من قبضايات بيروت ورُعاعها، او من يَنهب مالنا وأغراضنا على
ميناها».
الأسباب الدينية: يُعتبر
العامل الديني من الدوافع الكبرى التي تُحمل الناس على الهجرة. فقد ظلّ اللبنانيون
طوال عدّة أجيال، بعيدين عن كل ما يسيء الى العلاقات الودية بين مختلف مذاهبهم
وطوائفهم، وذلك حتى مجيء الحكم المصري العام ١٨٣١، الذي كان من نتائجه ان تحركت
النعرة الطائفية خاصةً بين المسيحيّين والدروز، ولم يكن الذنب ذنبهم، بل سبّب ذلك
الدسائس الدولية والمطامع الاستعمارية.
الأسباب الاجتماعيّة: كان المجتمع اللبناني ينقسم الى طبقتين، طبقة الفلاحين وطبقة الإقطاعيين والأسياد. فقد نعم الأسياد بالبحبوحة والرخاء بينما عاش الفلاّحون بالذلّ والفقر والبؤس، إذ كانت معظم بيوتهم مبنية من اللبن وكان البيت مؤلفاً من غرفة واحدة واسعة، تتقاسمها افراد العائلة مع مواشيهم، وارض غرفهم من تراب مدلوك ولا مقاعد ولا كراسي. إضافة الى ذلك، تزايدَ عدد السكان، وقابله نقص في الموارد، وكان ذلك من أهم الأسباب لا بل السبب الحقيقي الذي أدى الى الضيق الاقتصادي وبالتالي الى الهجرة. فكثرت الأيدي العاطلة عن العمل، وعاش قسم كبير في حالات العوز والحاجة، ولم يجد اللبنانيون حلاّ لمشكلتهم الغذائية سوى الهجرة. ولقد ساهمت التقنيات الطبية الآتية من اوروبا، من تلقيح وغيره، الى ارتفاع في المستوى الصحي والى تخفيض في الوفيات، ما أدى الى التزايد غير المتوازن لعدد السكان في المناطق الجبلية. وقد اعتبر الصحافي السياسي البعبداتي نعوم كسروان لبكي ان الانشقاق الاجتماعي كان من أهم العوامل التي دفعت بمئتي ألف من أبناء لبنان الى مغادرته.
أسباب خاصة: نشطت حركة المؤسّسات التبشيريّة والإرساليات الكاثوليكية والبروتستانتية في لبنان، في القرن التاسع عشر في مجالات عدة أهمها التعليم والاستشفاء، فتطوّرت الحركة الفكريّة والثقافيّة والاجتماعيّة والاقتصادية والعمرانية. وظهرت طبقة مثقَّفة وعاطلة عن العمل رغبت في تحسين أحوالها الماديّة والاجتماعيّة، وكان السبيل الوحيد لتحقيق ذلك مغادرة الوطن والهجرة.
وعرفت الحركة السياحيّة نحو لبنان والشرق نشاطاً ملحوظاً لغنى الشرق بمناطقه الأثرية ووجود الأراضي المقدسة المسيحية فيه. وقد لفت السيّاح الأنظار بمظهرهم الغني ومصاريفهم الضخمة، فتركوا لدى الكثير من اللبنانيّين فكرة طيّبة عنهم وعن بلدانهم وخيراتهم، الأمر الذي ساهم جداً في ترغيب اللبنانيّين بالرحيل والهجرة.
وكان اللبناني يحاول أن يجرّب حظّه في بلد آخر علّه يتخلّص من الحالة التي يعيشها. ولكي يتدبّر ثمن بطاقة السفر (الناولون) ومصاريف الرحلة، استلف مبالغ مقابل رهن ما يملك من مسكنٍ أو قطعة أرض صغيرة ويتعهّد خطّياً وشفهيّاً بتسديد المال والفائدة، بعد تحقيقه أرباحاً في المهجر.
إضافة الى ذلك، كان المسافر يحتاج الى كثير من المعاملات والمراجعات وإعداد الإجازات وغيرها... فكان لا بد من وسيط لذلك وخاصة ليستحصل على التذكرة العثمانية التي تجيز له السفر. والنتيجة، هجرة الشبّان الذين لم يخطر ببالهم يوما تخطّي الحدود اللبنانية. ولم يقتصر الدور على الوسطاء بل على النصّاح والسماسرة الذين راحوا يقصدون القرى ويرغّبون الشباب في المهاجرة، بعدما يكثرون الأحاديث الخلاّبة عن بلاد الإغتراب.
غادر المهاجر أهله وقريته وبات الجميع يترقّـب ورود رسائل منه تنقل إليهم أخباره. فغدا وصول الرسالة حدثاً تاريخياً في القرية. تُقرأ الرسالة عدة مرات على مسمع حفل كبير من الناس، ثم يستتبع تلاوتها اجتماعات وتفسيرات تحرك عند بعض السامعين روح الفضولية والغيرة من غِنى العالم الجديد ومجالات العمل فيه، ويندهشون من أجور المهاجرين في بلاد الاغتراب مقارنةً مع أجورهم في لبنان. وكانت معظم الرسائل تحمل دعوات مباشرة ونداءات الى الأهل والأخوة تحثهم الى ترك الوطن والإلتحاق بهم.
كما شكّلت الحوالات الماليّة التي كان يرسلها المغتربون إلى ذويهم مساعدة ثمينة جدّاً لهم، وكانت برهاناً ملموساً وجليّاً عن غنى بلدان المهجر ووسيلة للسفر في الوقت نفسه. وقد أثار مستوى الحياة الجديد الذي عاش فيه المهاجرون العائدون وذووهم المقيمون، فضول سائر مواطنيهم، مما دفع بالكثيرين منهم إلى تجربة حظهم في المهجر.
ثمة دوافع عديدة أيضا أدت الى الهجرة، ويعود بعضها الى أمور شخصية أو عائلية، كخلاف نشب بين عائلتين، او بين افراد الأسرة الواحدة، او بين الزوج والزوجة، أو فسخ خطبة، او خلاف مع الجيران، أو احتراق المحصول الزراعي، أو خسارة حيوانات النقل أو الفلاحة، أو أمور سياسية واجتماعية دفعت البعض للهرب من وجه العدالة والقانون، فضلاً عن حالات الرعب والخوف من جراء بعض الأحداث الأمنية والاعتداءات وغيرها.
الحروب ومؤثراتها
عندما حلّت الحرب العالميّة الأولى العام ١٩١٤، تأثّر لبنان فيها بشكل مباشر، فحاصرت السلطات التركيّة لبنان وأقفلت حدوده البحريّة والبريّة، فتوقّفت حركة الملاحة والسفر. بالإضافة الى ذلك أتت موجات الجَراد التي أكلت الأخضر واليابس، فأدّى ذلك الى مجاعة كبيرة ورهيبة والى أمراض عديدة وخوف... كل هذه العوامل، قضَت على ثُلث سكان لبنان تقريباً.
وعند انتهاء الحرب العالميّة هذه، استأنف
الشباب اللبناني السفر بحثاً عن مجالات العمل والثروة، وبدأوا بتحويل الأموال
لإعالة أهلهم الذين رزحوا طوال فترة الحرب تحت نير العثمانيين واضطهادهم. وقد بدأت
تمتدّ مرحلة الهجرة الحديثة، منذ إعلان دولة لبنان الكبير العام ١٩٢٠ وصولاً إلى
إعلان الجمهوريّة اللبنانيّة العام ١٩٢٦ ومن ثم استقلال لبنان في العام ١٩٤٣
وانتهاء الإنتداب الفرنسي على لبنان.
وفي العام ١٩٧٥ بدأت
الحرب الأهلية على أرض لبنان وأدّت إلى مقتل نحو مئة ألف لبناني، وجرح أكثر من ربع
مليون، وتهجير أكثر من ثمانمئة ألف. ولأسباب سياسية وأمنيّة واجتماعيّة واقتصاديّة
عديدة، لا تزال حركة الهجرة ناشطة وتتزايد تدريجيّاً حتى اليوم.
معاناة المغتربين: المهاجرون الأوائل عضهم الجوع وتصيدهم اللصوص
لم تكن هجرة اللبنانيين الاوائل رحلة مفروشة بالورود والياسمين، اذ عانى هؤلاء الكثير قبل ان يثبتوا أقدامهم في بلدان الانتشار، فضلا عن أن وجودهم الحالي يلاقي الكثير من الصعوبات والمعاناة في بعض البلدان. فالانسلاخ عن الوطن بحد ذاته ليس أمرا سهلا، وهو بالتالي لم يأت نتيجة ترف من المهاجرين بل بفعل أوضاع سياسية واجتماعية واقتصادية صعبة.
كان «تجار الكشّة» الأوائل يبدأون عملهم في الصباح الباكر فيجتازون الشوارع والطرق باحثين عن البيوت ومتحملين الحر والبرد والمطر، مزوِّدين أنفسهم خبزاً وجبناً وموزاً ليأكلوا الوجبة الوحيدة التي كان في إمكانهم تناولها خلال النهار. اجتازوا المناطق من الغرب إلى الشرق ومن الشمال إلى الجنوب، ومرّوا في الضواحي والمدن الداخلية والمزارع وقلب الغابات والسهول النائية، وقطعوا سيراً على الأقدام أو على ظهور الخيل طرقاً يتصاعد منها الغبار أو موحلة. واجهتهم مخاطر كثيرة منها وعورة المناطق وقطَّاع الطرق، والحيوانات المفترسة، فعرفوا الجوع والإعياء والمبيت في العراء أو في الحظائر أو على العشب الرطب، وتمضية ليالٍ طوال من الجوع وجفاف الحلق. وتشققت أرجلهم من السير الطويل في أراضٍ وعرة. واعتدى عليهم اللصوص، فخسروا رفاق درب، وتحملوا شتّى أنواع العقبات من تعديات وإهانات وإغلاق الأبواب في وجوههم وغيرها... ولحقت بهم الإهانات، واضطروا إلى الفرار من فوهات بنادق المزارعين التي وجهت إلى صدورهم، والهرب من وجه كلاب مسعورة تطاردهم. لكن المنتشرين عرفوا كيف يصبرون ويتجاوزون صعابهم بدهاء وحذق، معتمدين على ما كسبه بعضهم من معرفة بعادات البلاد وتقاليدها.
غالبا ما ينظر اللبنانيون الى المغترب على أنه إنسان مترف يملك من المال والنفوذ ما يؤهله لعيش رغيد. لكن هذه الصورة لا تنطبق على جميع المغتربين أو حتى على غالبيتهم. فثمة أعداد هائلة من هؤلاء تعيش على الكفاف، بل أن بعضهم يغرق في الفقر. فالمجتمع المغترب هو تماما كالمجتمع المقيم، وكثير من المهاجرين انقطعت بهم السبل بشكل لا يملك هؤلاء بدل تذكرة السفر. وقد اندمج البعض بالحياة الاجتماعية للمواطنين الأصليين، فنسي لغته الأصلية وبات الوطن لا يشكل بالنسبة اليهم أكثر من ذكرى غابرة.
وتفيد الدراسات أن ما بين ١٥ الى ٢٠ بالمئة من المغتربين يتمتعون بأحوال جيدة، فيما يعيش ستون بالمئة بكرامتهم، ويعاني الباقون من فقر وعوز مدقعين. وقد تعرض المهاجرون الأوائل للكثير من الاستغلال على يد السماسرة خلال انطلاقهم من لبنان عبر مرفأ بيروت على الأغلب. ويقول الكاتب سليمان البستاني في كتابه «عبرة وذكرى» انه «لو حوكم ولاة بيروت في ذلك الزمان على ما كانوا يؤلمون به اولئك المهاجرين البؤساء وما يبتزونه من أموال بواسطة أو بأخرى يوم سفرهم أو يوم عودتهم، لحكم عليهم بالسجن المؤبد». وكان المتصرف على جبل لبنان مظفر باشا قد خاض معركة ضارية ضد الهجرة من لبنان، فوضع سلسلة من الشروط على المهاجرين.
كما تعرض المهاجرون لدى وصولهم الى البلدان التي قصدوها الى معاملة سيئة. فعند نزولهم من البواخر في مرفأ مارسيليا في فرنسا كانوا يقادون كالأغنام الى أماكن يتعرضون فيها للسلب والنهب بحسب جريدة «البشير» التي أضافت أن من كان يمتنع منهم عن الانقياد يتعرض للضرب والتهديد. وكانت الحكومة الفرنسية تقوم بطرد المهاجرين الفقراء المتوجهين الى أميركا عبر أراضيها.
كان السفر بالبواخر في حد ذاته رحلة معاناة لا توصف. كان أكثرها صغير الحجم بطيء الإبحار. وقد أطلقوا على هذه البواخر إسم «دوارة» لأنها كانت ترتد على أعتابها الى المرفأ الذي انطلقت منه، فضلا عن غياب كل وسائل الراحة على هذه السفن والتعرض الدائم لتقلبات الطقس صيفا وشتاء، الى سوء معاملة البحارة لهم بحيث كانوا يسلطون عليهم خراطيم المياه الساخنة لقمعهم.
وفي بلدان الاغتراب تعرض المهاجرون للأمراض المعدية والخبيثة في غياب أبسط وسائل التطبيب والعلاج، وذلك بسبب تبدل المناخ، خاصة في افريقيا وأميركا الجنوبية، وكانت الملاريا والحمى الصفراء أخطر أنواع هذه الأمراض، ما أودى بحياة الكثيرين منهم أو إصابتهم بأمراض مضنية. ففي العام ١٩٠٠ قتل الوباء ٤٥ مهاجرا من أصل مئة، وتوفي ثلاثون آخرون في العام ١٩٢٦.
واجه المغتربون الاوائل في تجارتهم اللصوص وقطاع الطرق الذين كانوا يسرقون أموالهم وبضائعهم. وقد أوردت إحدى المجلات الأرجنتينية عام ١٩٠٩ أن مجموعات من الهنود أقدمت على خطف ١٣٠ مهاجرا وقتلتهم وأكلت لحومهم بعد أن استولت على متاعهم .
كانت الرحلة الى اوستراليا في اواخر القرن التاسع عشر صعبة وشاقة. فمن يسعفه الحظ في الوصول بعد رحلة تستمر ستة أشهرا، ينتظره على الشاطئ حجز في مركز صحي لمدة أربعين يوما، فإن نجا يدخل البلاد ويعاني الأمرين لكي يبدأ عملا يجني فيه قوت يومه. كانت الرحلة بالباخرة طويلة الأمد وتتطلب بنية قوية للصمود.
صحيح أن وسائل السفر تطورت بعد اختراع الطائرات والوسائل الأخرى الحديثة وباتت أكثر راحة، لكن المعاناة لم تتوقف في بلدان الاغتراب. لقد عانى المغتربون من صراعات سياسية في بلدان الانتشار لا علاقة لهم بها، لكنها كانت تنعكس عليهم وعلى مورد رزقهم. فقد شهد القرن العشرون الكثير من الثورات والانقلابات العسكرية في الكثير من البلدان، كان بعضها يدمر متاجر المغتربين فيضطرون من جديد للبدء من الصفر. ففي بلدان أفريقيا وأميركا اللاتينية تعرض اللبنانيون لاعتداءات موصوفة على حقوقهم في غياب دولة ترعى شؤونهم وتتابع قضاياهم، على الرغم من وجود سفارات لبنانية في هذه الدول. وقد أقر بعض البلدان قوانين صارمة نالت ما نالت من تعب اللبنانيين ومورد رزقهم. فبعد ١١ ايلول ٢٠٠١ في الولايات المتحدة فرضت إجراءات قاسية على المهاجرين طالت المغتربين اللبنانيين، وتمت ملاحقة آخرين تعرضوا لمضايقات شديدة.
في الخلاصة، ثمة روايات كثيرة يحكيها المغتربون اللبنانيون عن ظروف صعبة عاشوها هم وآباؤهم وأجدادهم، لو قدر لها أن تجمع وتؤرشف لشكلت تراجيديا ملحمية بالغة الأهمية.
(الصورة: Centro Investigación Inmigración Libanesa)