البرفسور مايكل دبغي... الأسطورة التي أطالت في أعمار البشر
لا يمكن أن تفتح مجالس الطب حديث أمراض القلب وجراحتها من دون أن يكون مايكل دبغي ابن مرجعيون حاضرا فيها. فالرجل الذي رحل عام 2008 بعد عمر مديد امتد نحو مائة عام، تحول الى أسطورة في الطب، حتى أطلق عليه لقب "الأسطورة الحية"، وهو الذي سجل أربعين اختراعا في حقل جراحة القلب، وكان أول من أجرى عملية القلب المفتوح في العالم. وقد كتب عنه الصحافيون يوما بأنه كان له الفضل الأكبر فبي إطالة أعمار الناس، وهو الذي عمل بشكل متواصل أكثر من خمسة وسبعين عاما، وأجرى نحو خمسين ألف عملية جراحية، اي بمعدل عمليتين في اليوم الواحد.
وجه طويل، عينان متوقدتان، إبتسامة عفوية، وعقل عبقري. هذا ما كان عليه جراح القلب الإستثنائي اللبناني الأصل الدكتور مايكل دبغي، الذي أطلقت عليه القاب كثيرة، وتصدرت اخباره عناوين الصحف، وحاز جوائز رفيعة على مدى سني عمره، ما جعله دهشة في مجال الطب، ومعجزة لدى التائقين إلى النجاة، حتى بعد توقف قلب من سحر القلوب وأنقذها.
ولد مايكل دبغي في بلدة جديدة مرجعيون الجنوبية عام 1908، وهاجر مع والديه شاكر دبغي ورهيجة الزربا الى الولايات المتحدة الأميركية، وهو لا يزال في الثانية من عمره، حيث تابع دروسه الابتدائية والثانوية، ثم انتسب الى كلية الطب في جامعة تولان في مدينة نيو أورلينز، كما تابع دراسته العليا متخصصاً في الجراحة في جامعة ستراسبور - فرنسا، واستكملها في جامعة هايديلبيرغ - ألمانيا، وعمل في مستشفيات أوروبية وأميركية عدة، وكان يجيد الانكليزية، والألمانية، والعربية والفرنسية.
منذ انتسابه الى الجامعة، انخرط دبغي في الأبحاث والدراسات، واخترع "المضخّة الدائرية" عام 1932 التي صارت جزءاً من آلة تقوم بعمل القلب والرئتين أثناء جراحة القلب المفتوح. كما منح أيضاً براءة الاختراع لعدد كبير من الأدوات الطبية والتقنيات التي ساهمت في إنقاذ حياة الملايين من البشر في انحاء العالم المختلفة. ولعل أهم هذه التقنيات إستعمال أقمشة خاصة، نفذها في بيته، على ماكينة الخياطة وبمساعدة زوجته عام 1952، ليرتّق شرايين المرضى ويلهم مراكز البحوث والصناعات الطبية والمختبرات انتاج الكثير منها بعد ذلك. وهذا الإبداع في علم الجراحة، يقول دبغي إنه إستقاه من جدته العجوز اللبنانية التي كانت تضعه في حضنها بينما تحوك بصنارتها أروع القطب، وقد إستعمل التكتيك نفسه والمهارة ذاتها في تصميمه للقطب الجراحية.
خلال الحرب العالمية الثانية، تطوّع للخدمة العسكرية، وعيّن مديراً لقسم الإرشاد الجراحي التابع لمكتب الجراحة العامة الأميركي. وقد أدّت ابحاثه ودراساته في تلك الفترة الى إنشاء مستشفى جراحي عسكري متنقل، كما وساهم لاحقاً في تطوير المستشفيات العسكرية المتنقلة (إم. إي. إس. إتش) وفي إنشاء مراكز جراحية خاصة لمعالجة العسكريين العائدين من الحرب التي أدت إلى انقاذ عدد من الجنود والمدنيين في كوريا وفيتنام، وغيّر دبغي مفاهيم الجراحة الطبية المتخصصة عبر إدارة مركز المحاربين القدامى الطب، مما خفض بنسبة كبيرة الضحايا بين الجرحى العسكريين حول العالم .
شغل دبغي حتى مماته (عام 2008) منصب الطبيب الجراح الأول في المستشفى التطبيقي، أكبر أجنحة "مركز تكساس الطبي"، كما أنه عميد "معهد بايلور الطبي" الرائد في مجال الدراسات والأبحاث الطبية. عمل كذلك مع وكالة الفضاء الأميركية "ناسا" لتطوير قلب إصطناعي صغير مكثف ذاتياً وقادر على العمل سنوات طويلة. ولا تزال وسائله الشهيرة في استخدام الطب التلفزيوني من طريق الأقمار الاصطناعية لربط المراكز الطبية العالمية بمركزه في هيوستن تكساس، تحظى بالإعجاب والتقدير.
وعرف أن يكتسب على مرّ السنين شهرة واسعة في أنحاء العالم كلها، فكان مستشاراً لجميع رؤساء الجمهورية الأميركية خلال الأعوام الخمسين الأخيرة من حياته، وكذلك لرؤساء دول آخرين من سائر البلدان، كما ساهم في إنشاء "المكتبة الوطنية الطبية" في أميركا، والتي تتضمن أهم المراجع والوثائق الطبية وأكثرها دقة وأكاديمية.
خلال زيارته الأخيرة لروسيا عام 1996 وأشرافه على عملية تغيير الشرايين التاجية لرئيسها بوريس يلتسين، كتبت عنه جميع صحف العالم كما ظهر في عدد من وسائل الإعلام. ويقدّر عدد عمليات القلب التي أجراها بـخمسين ألف عملية، كما درّب الآلاف من الجراحين على مستوى العالم، وألقى آلاف المحاضرات، وعالج مشاهير وأمراء ورؤساء دول. وفي العام 1976 أسّس تلامذته حول العالم "جمعية مايكل دبغي العالمية للجراحة"، كما أطلق إسمه على عدد كبير من المنظمات ومراكز الأبحاث والدراسات والمشاريع التي أقيمت بهدف خدمة الصحة العامة للبشر من الدول والشعوب كلها.
ولهذا كله، تلقى البروفسور دبغي أسمى جوائز التكريم والتقدير من أرقى معاهد وكليات الطب في العالم وأفضلها سمعة، كذلك كرّمته المؤسسات التربوية والمدنية والحكومات المختلفة. وفي العام 1969 نال أعلى وسام يمكن مواطن أميركي أن يحصل عليه، وهو "الميدالية الرئاسية للحرية بامتياز"، كما منحه الرئيس الأميركي رونالد ريغان "الميدالية الوطنية للعلوم" عام 1987.
وأجمل ما قيل فيه كان من الرئيس الأميركي الراحل ريتشارد نيكسون عام 1973 أثناء تكريمه في البيت الأبيض: "أميركا مدينة لك، دعني أحضنك نيابة عن الملايين"، حينها انهمرت دموع مايكل، وعلق عليها المذيع الأميركي لاري كينغ قائلاً: "تمنيت لو أن دموعه سقطت بين كفيّ لأمسح بها قلبي المضطرب واشفى، إن دبغي تعريف دقيق للاستقامة والعبقرية".
وتقديراً منها لإبداعه وعطاءاته، منحته جامعة البلمند في زيارته الأخيرة الى لبنان كرسياً سميّ بـ "كرسي" مايكل دبغي لبحوث القلب والشرايين وعلومها وامراضها، وهو لقب طبي رفيع المستوى واعتراف لكل من يخطو في مساره ويبدع في بحوثه وعطائه.
ومن الزعماء السياسيين الذين عالجهم دبغي: دوق ويندسور وشاه إيران والعاهل الأردني الملك حسين والرئيس التركي تورغُت أوزال ورئيسة نيكاراغوا السابقة فيوليتا شامورو والرؤساء الأميركيين، جون كينيدي وليندون جونسون ونيكسون، والرئيس الروسي السابق، بوريس يلتسن.
في مرجعيون
خلال زيارته الأخيرة للبنان في أيلول الـ 2005 برفقة زوجته كاترين وإبنته أولغا زار دبغي مسقط رأسه مرجعيون للمرة الثانية بعد 86 عاماً، وأقيم له استقبال حافل ولقاء تعارف مع الأقارب وأبناء العائلة حيث احتفل بعيد ميلاده السابع والتسعين، وتفقد منزل والديه في حي العيون، والتقط الصور التذكارية مع عقيلته وابنته، مشيراً إلى أنه أجمل يوم في حياته وقال "إنه لأمر مؤثر أن يعود الإنسان ٨٦ سنة الى الوراء".
وفي شباط عام 2006 خضع مايكل دبغي لجراحة الشريان الأبهر إتبعت فيها تقنية كان هو من طوّرها. وقد توفي دبغي في 11 تموز عام 2008 في مستشفى"ميثوديست هوسبيتال فاميليز" في هيوستن بولاية تكساس بعد حياة حافلة بالانجازات.
هو الصديق الحبيب.. هكذا يصف الدكتور فيليب سالم علاقته بالدكتور مايكل دبغي، ليضيف اليها ما يوطّد هذه العلاقة: كان والدي الروحي والمهني، وأعتقد من خلال العلاقة التي نشأت بيننا، انه كان يعتبرني ابنه الذي تبناه علميا وصداقة، كنّا اثنين من أقرب المقربين اليه، جورج الزاخم وأنا، لقد درجت عادة لقاءه كل يوم خميس من كل أسبوع، اذ أحضر له أطباقا لبنانية مثل (التبولة) و(الكبة الكباكب) التي كان يحبّها كثيرا الى جانب غيرها من الأطباق اللبنانية، ونتناول الغداء سويا، في تلك اللقاءات، كان يظهر الطفل الذي في داخله، كان طفلا معلقا جدا بوالدته ووالده وكان دائما يدور حديثه حولهما، ومرددا على مسامعي انهما أهمّ شيء في حياتي.
يضيف الدكتور فيليب سالم: ثمة حادثة أحب دائما روايتها، فذات مرة كنا عائدين من واشنطن على متن الطائرة، في مقصورة الدرجة الأولى ولم يكن فيها سوانا، وكان أمامنا تقرير علينا رفعه خلال ساعات الى الرئيس بوش الأب، وفيما كان يملي علي آراءه لأدونها، فجأة صمت وتوجه الي بالقول: يا فيليب، أريد ان أقول لك أمرا مرّ بخاطري لا علاقة له بالأمر، أتعرف، الغريب في الأمر ان الشخصين الاثنين الذين أحبهما كثيرا وأعرف انهما يحبانني من دون شروط هما لبنانيان.
ويضيف الدكتور سالم: قلت له: "ومن هو هذا المجنون الآخر الذي يحبك كما أُحبك؟" فأجابني: انك لا تعرفه ويلقبونه في استراليا بـ (دبغي استراليا)، تدرّب على يدي وأصبح أهم طبيب قلب فيها. سألته عن اسمه، فأجاب: "سام مالك" وأنت لا تعرفه. عندها ضحكت من كل قلبي لأن سام هو ابن خالي ابراهيم، واسمه الأصلي سليم، وقلت له: "ينظرون اليك في الولايات المتحدة الأميركية على انك إله، فلا يجنّ جنونك اذا ما أخبرتك سراً، ان هذا الرجل أعرفه اذ ان جدّه هو جدّي لأنه ابن خالي ابراهيم. لم يصدّق الدكتور دبغي هذه العلاقة بيني وبين ابن خالي سليم (سام) الذي كان يتردد على هيوستن، وبتنا نلتقي واياه بالدكتور دبغي".
*المصدر: جريدة السفير