Follow us

image

اللبنانيون في ساحل العاج: 125 عاماً من الكفاح والمعاناة

نقلاً عن جريدة "السفير"

بدأت هجرة اللبنانيين إلى ساحل العاج في نهاية القرن التاسع عشر، وقد نجحوا في إثبات قدراتهم المهنية والثقافية والإبداعية وحتى السياسية، وتمكّنوا من تشكيل جزء هام من اقتصاديات الدولة المضيفة. وثمة كتاب لرحالة فرنسي يقول فيه انه التقى في ساحل العاج لبنانياً من آل منصور في العام 1891.
ولم تكن معاناة اللبنانيين الأخيرة في ساحل العاج حدثًا فريدًا في مسيرة هؤلاء الاغترابية. فقد سبقها الكثير من المحطات والأزمات المشابهة، في ساحل العاج نفسها وفي بلدان أخرى من القارة التي كانت تنام على انقلاب، لتصحو على آخر.
فقد ضربت الجالية اللبنانية في السنوات الاخيرة أزمة كبرى خلفت خسائر فادحة في صفوفها على المستوى المادي جراء الصراع الذي جرى بين الرئيس السابق لوران غباغبو والرئيس الحالي الحسن وتارا، والذي شهد احداثا دامية بين انصار الطرفين وانتهى بتثبيت الرئيس المنتخب وتارا واعتقال الرئيس السابق غباغبو.
وكان من الطبيعي ان تتضرر الجالية اللبنانية من هذه الاحداث باعتبارها في الواجهة الاقتصادية، فضلا عن تهجير الآلاف الى لبنان والدول المجاورة لساحل العاج، إلا ان الجالية استعادت نشاطها بعد حسم الأمور على الرغم من الخسائر الفادحة التي منيت بها.
تتفاوت الارقام والتقديرات بالنسبة لعدد اللبنانيين في ساحل العاج. ثمة من يقول إن العدد اربعون ألف نسمة، ليصل ربما إلى 90 ألفًا. لكن ثمة من يرى ان هذا العدد مبالغ فيه. وفي اي حال يقيم 85 في المئة تقريباً منهم في أبيدجان، ويتوزع الباقون في 19 محافظة، تتكون منها البلاد. والجالية اللبنانية هي أكبر جالية عربية في ساحل العاج، التي يسيطر اللبنانيون على أكثر من 50 في المئة من اقتصادها ونشاطها التجاري والصناعي والخدماتي العام. ويعمل اللبنانيون في مختلف الحقول، وتأتي التجارة في طليعتها، ولديهم آلاف المصالح كالمصانع والمستشفيات والعيادات الطبية والفنادق والمطاعم.
وقد نظمت الجالية في ساحل العاج إطارها الاقتصادي والتجاري من خلال غرفة التجارة والصناعة اللبنانية، والتي يديرها مجلس من رجال الاعمال يرأسه الدكتور جوزف الخوري الذي يرى في هذه المؤسسة عاملاً اقتصادياً مهماً بالنسبة للجالية يربطها بالمسؤولين العاجيين للتنسيق ومعالجة كل ما يمكن ان ينتج من مشاكل.

نجيب زهر
يذكر اللبنانيون في ساحل العاج بالخير الرئيس الراحل هوفويه بوانييه الذي كان رائداً في الانسانية خلال الحرب اللبنانية على حد قول رئيس المجلس القاري الافريقي في الجامعة الثقافية نجيب زهر: «لقد جعل من بلده مركز ضيافة لكل قادم سواء كان لبنانيا او غير لبناني. وكانت عنده رؤية مستقبلية بعيدة، وكان يشجع على العمل والزراعة والحفاظ على النظام العام. وكان يقول لو خيّروني بين الفوضى والظلم لاخترت الظلم، لأن الظلم يزول والفوضى تخرب البلاد. لقد جئت الى هذا البلد في سن الحادية والعشرين ورافقته طوال حياته وتعلمت منه الكثير.
كثيراً ما يشكو المغتربون من غياب الجامعة الثقافية ودورها في تنظيم الجاليات وما يعكس ذلك من مشاكل».
يقول نجيب زهر كمسؤول تاريخي عريق في الجامعة: لا يمكن السيطرة على الاغتراب وحصره في أماكن محددة. فالجامعة هي عنوان تواصل ثقافي وليست حاكماً للمغتربين وهي تأثرت بالواقع السياسي في لبنان، والعمل الاجتماعي هو عمل تطوّعي. وعلى الرغم من ذلك أنجزت الجاليات اللبنانية في افريقيا الكثير من الاعمال المهمة. لقد انشأنا المدارس والمؤسسات والمشاريع الكثيرة التي استفاد منها الأفارقة. صحيح ان المغترب الافريقي يحمل فكراً وطنياً وقومياً لكننا حرصنا الا نحمّل الدول الافريقية وزر قضايانا.
النشاط التعليمي والديني
تلمّست الجالية اللبنانية في ساحل العاج مدى أهمية استمرار الروابط مع اللغة الام، وخاصة للاجيال الجديدة التي ولدت في ساحل العاج خلال أكثر من ثلاثة عشر عقداً من الزمن. ودفعت الحاجة بعد ان كاد الكثير من المغتربين ينسون لغتهم وثقافتهم وعاداتهم الاجتماعية، وخصوصا الذين ولدوا في هذا البلد ولم يزوروا لبنان، الى التفكير بإنشاء المدارس اللبنانية والصروح الدينية لمواكبة افراد الجالية في تطلعاتهم والحفاظ على لغتهم العربية.
وكان من اولى المدارس التربوية التي اسست الى جانب جمعيات اجتماعية ناشطة المدرسة اللبنانية للتعليم الواقعة في منطقة ماركوري، وبدأت نشاطها التعليمي في العام 1992 وتضم اليوم اكثر من الف تلميذ وتلميذة في المراحل الابتدائية والمتوسطة والثانوية، من بينهم تلامذة من جاليات عربية مقيمة في ابيدجان، ويشرف على المدرسة الشيخ عدنان زلغوط ويتولى إدارتها الحاج محمد شري. والى جانب هذه المدرسة كانت انشئت المدرسة اللبنانية في ساحل العاج التي تضم مئات التلامذة من ابناء الجالية اللبنانية وتضطلع بدور تربوي هادف ويديرها فادي آصاف.
كما تنشط في عموم ساحل العاج جمعية المبرات الخيرية الاسلامية التي اسسها المرجع الراحل العلامة السيد محمد حسين فضل الله، وتؤدي مهام توجيهية وارشادية ودينية، ويدير مركزها في ابيدجان الشيخ وهيب مغنيه منتدباً من الجمعية.
وفي ساحل العاج جمعيات تعنى بالنشاطات الاجتماعية والثقافية والانسانية بينها جمعية الغدير التي يرأسها الشيخ عبد المنعم قبيسي الذي يقول إنه استطاع ان يسد ثغرة في احتياجات الجالية في المجالات الانسانية والارشاد والتوجيه الديني ونشر ثقافة الارتباط بالوطن. «ورسالتنا دينية ثقافية اجتماعية، وقد اقمنا شبكة علاقات متينة مع المواطن العاجي بمختلف شرائحه، فضلاً عن علاقتنا المميزة برجال الدين المسيحيين. وفي عاشوراء نقوم بحملة تبرع كبرى بالدم لمصلحة المستشفيات».
وفي مجال العمل الاجتماعي والثقافي يقول الشيخ عبد المنعم قبيسي «ان الجالية ساهمت في الاعمار قبل الاستقلال وبعده. ولا يخفى عليكم ان بعض احياء ابيدجان باتت تقتصر على ابناء الجالية. البلد مضياف واستطاع اللبناني ان ينجح في كل الميادين العلمية والطبية والاقتصادية والصناعية والتجارية».
أنشأت جمعية الغدير في ابيدجان مجمع الزهراء الثقافي، وهو يضم مسجداً يتسع لألف مصلٍّ وقاعة مؤتمرات وحسينية ومكاناً للقاءات الجالية ومناسباتها ويتسع لألف وستمئة شخص، مع مسرح وسينما ومكتبة عامة تضم نحو خمسة آلاف كتاب، فضلا عن مستوصف خيري يضم عيادات لطب الاسنان والعيون ومختبرات، وعلى هامش المجمع منظومة مدارس، بينها مدرستان في العاصمة وخمس مدارس في المناطق تتولى تدريس الجيل الصاعد العلوم الاكاديمية واللغتين العربية والفرنسية، اضافة الى النشاطات الكشفية والرياضية والنسوية.
والى جانب المؤسسات الاسلامية تسجل الكنيسة المارونية في ساحل العاج حضوراً مميزاً، وهي كانت اول ارسالية للرهبنة المارونية اللبنانية في افريقيا بعد السنغال في العام 1948، وقد اسسها الأب نعمة الله الخوري.
الأب جون ابوسرحال يشرف اليوم على الارسالية المارونية في ابيدجان والذي يؤكد «أن الارسالية لحقت الانتشار اللبناني وليس الماروني وهي في خدمة الجالية ككل وليس الطائفة فقط».
يضيف: كان اللبنانيون الاوائل يذوبون في المجتمعات التي ينتشرون فيها، ولذلك رأت الكنيسة المارونية ان تتابع هؤلاء من أجل الحفاظ على هويتهم وتراثهم. وقد ساعد اللبنانيون على إنشاء هذه الارساليات من قبل الرهبنة المارونية اللبنانية، وقد بدأنا في أفريقيا ثم قبرص والآن ننتشر في 14 دولة.
عن إنجازات هذه الإرساليات يقول الأب ابو سرحال: كانت رسالتنا من شقين، شق رعوي لخدمة الجالية المسيحية، وشق تربوي حيث أسسنا مدرسة للبنانيين والافارقة، وكانت من أهم المدارس وتتبع المنهج اللبناني. طبعاً اخواننا المسلمون لهم مدارسهم وثمة مدارس علمانية ايضاً، ويستطيع الطالب أن يتابع دروسه الجامعية في لبنان والخارج بعد نيله الشهادة الثانوية. لكن الغالبية من طلابنا اليوم باتت من العاجيين، بحيث أصبحت مهمتنا رعوية للجالية وتربوية في خدمة أهل البلد.
رموز ووجوه
احتضنت ساحل العاج الكثير من الرموز اللبنانية التي انطبع اسمها بتلك البلاد وهي ناضلت وكافحت من الصفر وبنت مؤسسات كبرى.
رئيس الجالية اللبنانية سابقاً فؤاد عميص المولود في صيدا هاجر الى ساحل العاج العام 1963 بعدما سبقه اشقاؤه في العام 1938، وبدأ عمله في التجارة، وأسس شركة للطباعة والنشر ثم مصنعاً للكرتون ومشتقاته مع أخوته.
فؤاد عميص خاض تجارب قاسية مع الجامعة وبعض اركان الجالية التي لا يبدو راضياً عنها، فيقول «إنها غير موحدة بسبب العصبيات المناطقية والفردية والتي كانت دائماً تتغلب على المصلحة العامة». كان دائماً يصاب بالإحباط على حد قوله «بسبب التصرفات السلبية التي تعرض لها من قبل بعض افراد الجالية».
وتوجّه عميص عبر «السفير» بأطيب تمنياته بالتوفيق لرئيس وأعضاء غرفة التجارة والصناعة اللبنانية العاجية، في خدمة لبنان واللبنانيين في ساحل العاج، مقدراً التضحيات والصعوبات التي تواجههم على مختلف الأصعدة.
حسن قانصو واحد من الذين غادروا لبنان للبحث عن عمل وصارت لديهم شركات كبرى. يقول حسن: تركت بلدتي الشهابية في الجنوب وجئت بداية الى كوناكري عاصمة غينيا، وكان شقيقي في ساحل العاج فتواصلت معه وتوجّهت الى ابيدجان حيث عملت مع أحد رجال الأعمال، وانطلقت من هنا حيث كانت نقطة البداية في الميناء، اشحن الخشب، وتعلمت تخليص البضائع، ثم فتحت مكتب ترانزيت واشتريت معملاً للخشب بإشراف رجل الاعمال اسماعيل الخليل، واعمل الآن في مجال التجارة والإطارات والزيوت اضافة الى النقل العام.
يضيف: لم أجد الكثير من الصعوبة في التعاطي مع أهل البلاد، حيث كنت منذ الصغر مغرماً باللغات، وكان لقوات الطوارئ في جنوب لبنان فضل كبير في ذلك، حيث تعلمت اللغتين الفرنسية والانكليزية.
«
علاقتي جيدة بكل ابناء الجالية - يقول حسن - وارتباطي بالوطن دائم على الرغم من حصولي على الجنسية العاجية. اولادي هنا، لكن مستقبلهم سيكون في الخارج، وهم مرتبطون بلبنان».
يؤكد حسن على «ضرورة تماسك الجالية وتعاونها، خصوصاً ان الدولة العاجية تحضننا وليس هناك سلبيات، وهي تحترم وجودنا. المهم ان نلتزم القانون وندفع الرسوم والضرائب ونقوم بواجباتنا تجاه هذا البلد المضياف».

*التحقيق نشر في جريدة "السفير" في حزيران الماضي بعنوان: الجالية اللبنانية في ساحل العاج: 125 عاماً من الكفاح والمعاناة