Follow us

image

أيّ أسرار تُخبِّئها الأنفاق الجوفيّة في مغارة جعيتا؟

عام 1873، تيَقَّن اللبنانيّون أنّ الله منحهم ثروة طبيعيّة تحبس الأنفاس وتأسر العيون بجمالها الخلّاب، ألا وهي مغارة جعيتا التي اجتذبت بعثاتٍ أجنبيّة درست معالمها واكتشفت نحو 1500 متر منها حتّى عام 1946. ولا تزال المغارة تسحر اللبنانيين والعالم بجمالها المُخبَّأ في باطن الأرض، إذ إنّ مُغامرين لبنانيّين وناشطين في Speleo club du Liban اكتشفوا 5500 متر من المغارة بين عامَي 1946 و2014. فما الذي شاهدوه في داخلها؟ وما الأسرار المُخبَّأة في جوفها؟

 تقع مغارة جعيتا في وادي نهر الكلب على بُعد نحو 20 كيلومتراً شمال بيروت، وتتكوَّن من طبقتين، تُعرفان بالمغارة العليا والمغارة السفلى. والمغارة عبارة عن تجاويف وشعاب ضيقة، وردهات وهياكل وقاعات نحتتها الطبيعة، وتسرّبت إليها المياه الكلسيّة من مُرتفعات لبنان، لتُشكّل مع مرور الزمن عالماً من المنحوتات والأشكال والتكوينات العجيبة.

غير أنّ كلّ الجمال الذي رآه اللبنانيّون لا يُعتبر سوى جزء من المغارة فوقَ الماء، لكنّ أنفاقها المائيّة التي تؤدّي إلى مصدر المياه في داخلها أو ربّما إلى مغارات أُخرى وفراغات في داخل باطن الأرض، ما زالت غير معروفة حتى الآن، على رغم محاولات الغطس المُتكرّرة لمُستكشفين ومُغامرين كثيرين.

فعمليّة الغوص الأخيرة داخل أنفاق المغارة المجهولة تمّت في السنة الحاليّة، ضمن مشروع Lebanese Cave Diving Project الذي يهدف إلى اكتشاف مغاور لبنان ورسم خرائط لها وتدريب الغوّاصين على معالمها، وهو مشروع مشترك بين Speleo club du Liban، والمُدرّب المحترف في الغوص العميق وفي الكهوف والحائز شهادات عالمية في هذا النوع من الغوص، سيمون نديم، الذي أجرت «الجمهورية» لقاءً حصريّاً معه، أفصحَ خلاله عن تفاصيل ما رآه داخل الأنفاق الجوفيّة لمغارة جعيتا.

لمحة تارخية

إستهلّ سيمون حديثه بإعطائنا لمحةً عن تاريخ الغوص في جعيتا، وقال: «إنّ المكان الذي أغوص فيه الآن اكتشفه عام 1954 فريق Speleo club du Liban بقيادة سامي كركبي، وهو عبارة عن بحيرة في باطن الأرض تُشكّل المنبع الأساس للمياه الجارية داخل المغارة، وتبعُد 6400 متر عَن مدخلها. وتضُمّ هذه البحيرة نفقاً مائياً طويلاً تحت الماء يستلزم السَير فوقه يومين في داخل المغارة.

وعام 1966 تمت عمليّة الغوص الأولى داخل نفق هذه البحيرة، وكان الفريق مؤلّفاً من 16 شخصاً من بينهم سامي كركبي وغواصون فرنسيّون وصلوا الى مسافة 120 متراً داخل باطن الأرض وعمق 24 متراً تحت الماء. وقد مشوا نحو يومين داخل دهاليز المغارة للوصول إلى البحيرة.
وفي عام 1971، وبعدَ 3 سنوات من الدراسات، حُفِرَ نفق بطول 500 متر من أعلى الجبل يؤدي مباشرة إلى البحيرة، يُغني عن الحاجة إلى إمضاء يومين من السير داخل باطن الأرض للوصول اليها.

وأوضح سيمون: «في عام 1975، دخَلَ الغوّاص ميشال مجدلاني لمسافة 150 متراً داخل باطن الأرض وعمق 40 متراً تحت الماء. وعام 1993 أتت بعثة بقيادة جان جاك بولانز، بإدارة Speleo club du Liban، وغاصت أربع مرات في نفق البحيرة، استكمالاً لما توصَّل إليه مجدلاني، ووضعت خرائط للأنفاق الداخلية. فوصل بولانز إلى مسافة 240 متراً داخل باطن الأرض وعمق 64 متراً. وكان هذا إنجازاً كبيراً نسبة إلى المعدّات المتوافرة في تلك الحقبة».

 40 ساعة في الأنفاق

وقال سيمون: «منذ عام 1993 لم تَجرِ أيُّ محاولات جدّية لمواصلة الاستكشاف، حتّى عام 2014، حيث بدأتُ في كانون الثاني الماضي الغوص في الأنفاق لاستكشاف ما يوجد في داخلها، ووضع خرائط صحيحة. ومُذّاك الحين، أمضيتُ تحت الماء داخل الأنفاق نحو 40 ساعة لوضع الخرائط، وتخطّيتُ مسافة الـ 240 متراً التي استكشفها بولانز، ووصلتُ إلى مسافة 470 متراً داخل باطن الأرض وعمق 66 متراً تحت الماء.

وفي هذه النقطة غرفة مليئة بالصخور المتراكمة فوق بعضها، يجب التفتيش من خلالها على ممرّ يسمح بإكمال الاستكشاف، فهناك إحتمال أن تكون هناك مغارة أخرى تشبه مغارة جعيتا في الداخل». وأردف سيمون: «بلغتُ مكاناً يصعب جداً تخطّيه بالإمكانات والمعدّات التي أملكها حاليّاً.

لذا كان التركيز على وضع خرائط للأماكن التي استكشفتها من المغارة. ولمواصلة العمليّة لا بُدَّ من تمويل البعثة، لأنّ كلّ ما فعلناه حتّى الآن كان على حسابنا الخاص بدعم من «مايك سبور».

والأمر ليس سهلاً، لأنّ الوصول إلى نقطة أبعد تحت الماء داخل أنفاق في باطن الأرض، يتطلّب بناء غرفة جافّة تُرَكّب تحت الماء ومتّصلة بالخارج، يمكنني الإستراحة فيها بعد عمليات الغوص الطويلة، بهدف التوقّف داخلها نحو ساعتين قبلَ الصعود إلى خارج المياه بسلامة. كذلك، من المهمّ إعادة ترميم سكّة الحديد داخل النفق المائي المُمتدّ من أعلى الجبل إلى البحيرة لتسهيل الوصول ونقل المعدّات من البحيرة وإليها».

تضاريس الأنفاق

أمّا في ما يتعلّق بالطبيعة الداخليّة للأنفاق، فأوضح سيمون أنّه «توجد في داخلها غرف عملاقة مليئة بالماء يصل ارتفاعها الى 40 متراً في بعض الأماكن وتضيق إلى أقل من متر في أماكن أخرى، ويتراوح عرضها من نصف متر إلى عشرين متراً.

لكنّ صعوبة هذه المغارة تكمُن في تضاريسها، حيث إنّها تبدأ بالانحدار إلى عمق 18 متراً تحت الماء، ثم تصعد 12 متراً، لتعود وتنحدر إلى 64 متراً ثم صعوداً إلى 40 متراً، ثم نزولاً إلى 66 متراً ثم صعوداً إلى 9 أمتار على مسافة 470 داخل باطن الأرض. وهذه الانحدارات والارتفاعات تُشكّل خطراً على الغوّاص إذا لم يكُن ملمّاً بنوع مُماثل من عمليّات الغوص، وإذا لم يكُن مزوَّداً معدّات خاصة».

وتابع سيمون: «الوقت اللازم للوصول إلى ما بعد نقطة التي بلغَها بولانز تتطّلب نحو ثلاث ساعات وعشرين دقيقة، والغوصة الأطول التي نفّذتُها تطلّبت خمس ساعات وعشرين دقيقة متواصلة داخل باطن الأرض، استكشفتُ خلالها مساحة 550 متراً، منها 310 أمتار جديدة لم يصل إليها أحد سابقاً».

وحيد داخل الأنفاق

وعن المشاعر التي تنتابه عندما يكون وحيداً داخل أنفاق ودهاليز وغرف مُظلمة، شرحَ سيمون: «تخيّل أنّك موجود داخل نفق مُعتم على بُعد خمس ساعات من رفاقك، معتمداً على معدّاتِك وضوءٍ في يدك. لكنّني لا أخاف، لأنّني غير مُتهوّر، بل أدرس خطواتي بدقّة.

وإذا حصل أيّ طارئ لديّ حلول عدّة لمواجهته. فأنا تدرّبتُ جيّداً على كلّ الاحتمالات. وأنا لا أعتبرها مخاطرة لأنّني لم أتعدَّ يوماً حدود ما تدرّبت عليه». وأضاف: «لقد قمتُ بعمليات غوص أخطر مما أقوم به في جعيتا الآن، أذكر منها استكشاف مغارة على عمق 191 متراً تحت سطح الماء في زيمبابواي».

مصادر المياه

وعَن مصدر المياه التي تصُبّ في مغارة جعيتا، أكّد سيمون أنّ «هناك مصادر عدّة. لكنّ المصدر الأساس للمياه يُحتمَل أن يكون نهر جنّة الذي ينبع من نهر ابراهيم. لكنّ هذا الاحتمال يُمكن أن يتغيّر لاحقاً بعدَ إجراء مزيد من الاكتشافات، لذا لا شيء أكيداً حتّى الآن».

وختمَ سيمون قائلاً: «أشكر جميع مَن ساهموا في تمويل هذه البعثة وإنجاح عمليّة الاستكشاف، خصوصاً مصلحة مياه بيروت، بلدية بلونة، والسيد طوني ضو، وأدعو المعنيّين إلى إظهار مزيد من الاهتمام لمواصلة العمليّة التي بدأتُها، لأنّ ذلك يصبّ أوّلاً في مصلحة لبنان. ونحن في صدد إعداد وثائقي مُصوَّر لما رأيناه وفعلناه في الداخل، لكي يراه جميع اللبنانيين".


المصدر: جريدة الجمهورية