Follow us

image

وصلنا إلى التحت الذي ليس تحته تحت... بقلم: السياسي دافيد عيسى

بقلم: دافيد عيسى – خاص جبلنا ماغازين

نُصدم كلّ يوم بالطريقة التي تُدار بها الأوضاع والمشاكل في لبنان، وأقل ما يُقال فيها أنها تنّم عن تقصير وإهمال ولامبالاة. فقبل أيام غرقت الطرق بالمياه وتحولت إلى بحيرات وأنهار وعلِق الناس لساعات واحترقت أعصابهم وتعطلت أعمالهم ولم يرفّ للمسؤولين جفن ولم يصدر عنهم توضيحٌ وتبرير واعتذار، إلى ان خرج علينا وزراء ومسؤولون يتقاذفون كرة المسؤولية ويتبادلون الاتهامات الجارحة؛ وكأن المشكلة مشكلة خلافات ومشادات شخصية وتصفية حسابات.

ومنذ أيام صدرت تحذيرات من مراصد الأحوال الجوية والمراكز العلمية بشأن عاصفة عاتية آتية تحمل معها الخير والنعمة التي تتحول عندنا إلى نقمة؛ بعدما فقد المواطن الثقة بدولته والقيّمين عليها حتى في أبسط الأمور الحياتية وعلى مستوى الخدمات البسيطة والحد الأدنى من الحقوق والتقديمات التي تحفظ لهم سلامتهم وكرامتهم الانسانية وتشعرهم أنهم في دولة لا في مزرعة وأنهم محكومون من رجال دولة، لا من رجال شوارع وزواريب ومن أصحاب الحسابات الصغيرة الضيقة.

السياسيون في وادٍ والناس في وادٍ آخر... وما بين الضفّتين هوة سحيقة... وما بين الطرفين أزمة ثقة عميقة! فالسياسيون منصرفون إلى مصالحهم وغارقون في خلافاتهم الضيقة وسرقةِ وهدرِ المال العام، وينتظرون الأوامر من الخارج كونَ معظمِهم مرتبطاً بقرار خارجي وهم متلقّون فلا يقدّمون ولا يؤخرون في أيٍّ من القرارات الكبرى في البلاد. أما الناس، فإنهم غارقون في مشاكلهم وهمومهم وقلقون على حاضرهم ومستقبلهم ولا يَلقون لشكواهم آذاناً صاغية ولمشاكلهم حلولاً ناجعة، فنراهم يعبّرون عن غضبهم على صفحات مواقع التواصل الأجتماعي (فايسبوك وتويتر وغيرها)، فيعتمدونها وسيلةً لِ "فشّ خلقهم" من خلال إبداء آرائهم على صفحاتهم الخاصة بشكل جريء ودون رقيب أو حسيب تارةً، أو من خلال مهاجمة بعض الوزراء والسياسيين تارةً أخرى. والبعض يتبادل الاتهامات والمواقف الحادة بسبب الاصطفاف السياسي الكبير، لكنهم في النهاية، وعندما يدخلون في مواضيع اجتماعية ومعيشية وحياتية يومية، تَراهم يتوحّدون في آرائهم وشكواهم واعتراضاتهم... يوحّدهم وجعُهم ومعاناتُهم اليومية، خصوصاً بعدما وصل 90 بالماية من الشعب اللبناني إلى ما دون خط الفقر؛ فيتوافقون حينها في الأراء، ويعودون ليقفوا صفاً واحداً أمام الحقيقة المرّة التي وصلوا إليها.

هذا القلق يبدأ من افتقاد الناس إلى مقوّمات الأمن الاجتماعي والاستقرار النفسي والمعنوي نتيجةَ عدمِ توافر أبسط التقديمات والخِدمات، وعدمِ تلبية الحدّ الأدنى من الحقوق والمطالب،  بدءاً من سلسلة الرتب والرواتب التي باتت تهدد القطاع العام ودورة العمل والإنتاج في الدولة.

وإلى موظفي الدولة، يبقى قطاع المعلمين في حراك دائم، وقد اضطرهؤلاء لِلّجوء إلى الإضرابات والاعتصامات المتكررة دونَ طائل. وكلّ ذلك يجري على حساب الطلاب وتحصيلهم العلمي الناقص. هذا من دون إغفال موضوع الجامعة اللبنانية التي تحتاج إلى عمليةِ تطويرٍ وإصلاحاتٍ فعلية وتسويةِ أوضاع الأساتذة المتعاقدين وانتشالها من براثن التدخلات والتوظيفات السياسية.

وبالانتقال إلى أحوال القطاعات والمرافق الخدماتية في الدولة وما هي عليه من أوضاعٍ مزرية... فحدّث ولا حرج!

قطاع الكهرباء من سيّء إلى أسوأ ولا نعرف أين صارت خططُ التطوير والإنتاج واستجلاب البواخر...

قطاعُ الاتصالات في وضعٍ مزرٍ وتعيس وعلى كل مواطن أن يتصل ثلاث أو أربع مرات لإتمام اتصاله. هذا دون أن نتحدث عن أسعار الاتصالات في لبنان بحيث أصبحت الأغلى في العالم...

حالُ الطرق والبنى التحتية فضحتها العاصفة الأخيرة التي أغرقت البلاد والعباد، ومعها انكشف التقصيرُ الفاضح في أعمال الصيانة والتأهيل...

رائحةُ الصفقات والسمسرات تفوح من "مرافىء" ومرافق حيوية أساسية...

الغلاء والتضخم إلى ازدياد، ولم تعد الرواتب والأجور متناسبة مع أعباء الحياة... والطبقة الوسطى تتبخر، والهوّة في المجتمع تتسع بين فقراء يزدادون فقراً وأثرياء يزدادون ثراء بعدما أضيف إلى أثرياء الحرب "الأثرياء الجدد"، أرباب السمسرات والصفقات...

الشباب، ولا سيما منهم خرّيجو الجامعات، لا يجدون فرصَ عملٍ ولا يجدون إلا الهجرة سبيلاً للخروج من واقع ظالم ومستقبل غامض. والآباء والآمهات الذين أفنوا حياتهم وقدموا الغالي والرخيص في سبيل تعليم أولادهم، يُحرمون منهم قسراً، ويشاهدون بألمٍ وحسرة كيف أن أبناءهم يغادرون وطنهم وكيف يتمّ تصدير الثروات والطاقات الشبابية والأدمغة والخبرات إلى الخارج...

حوادث السلب والسرقة، التي في حالات كثيرة تتحول إلى أفعال جرمية وفي وضح النهار، إلى تكاثر وازدياد، في ظل تقاعس الأجهزة الامنية وعجزها الذي يَظهر على مستويات أرفع وفي أوضاع أخطر تشهدها مناطق متوترة وساخنة مثل طرابلس وبعض مناطق عرسال البقاعية، وداخل "سجن روميه" وهنا المهزلة والطامة الكبرى، وبعض المناطق الأخرى...

وكان ينقص لاكتمال هذه اللوحة القاتمة تطوران حصلا أخيراً :

الأول: يتمثل في ظاهرة مستجدة وغير معهودة في قطاع السياحة الذي يُعدّ قطاعاً حيوياً وركناً من أركان الاقتصاد اللبناني، وهي ظاهرة إقفال مؤسسات سياحية من مطاعم وفنادق مصنفة بأنها مؤسسات كبيرة وعريقة وذائعة الصيت، ولم يكن من المتوقع أبداً أن ترزح تحت ثقل ديونٍ وخسائرَ نتيجة تراجع حجم الأعمال والحركة السياحية... وبعدما كان من المفترض أن لبنان هو المستفيد من الاضطرابات والأحداث التي تجتاح المنطقة العربية وهو المؤهل لاستقطاب السياح والمستثمرين، إذْ به لأسبابٍ سياسية (لا مجال لذكرها هنا) يخسر هذه الفرصة السانحة وينضم إلى لائحة الدول القاصرة والمقصّرة... في حين أنه يتمتع بكل المؤهلات التي تسمح له بدخول حلبة المنافسة والاقتداء بالنموذج الناجح الذي تقدمه دولة الإمارات حيث الازدهار والتطور والنظام والحداثة .

الثاني: يتمثل في قضية اللاجئين السوريين إلى لبنان الذين اضطرتهم ظروف الحرب إلى مغادرة بلدهم. ومن الطبيعي أن يكّن اللبنانيون لهؤلاء مشاعرَ التعاطف والتضامن وأن يكون التعاطي مع قضيتهم من زاوية إنسانية بحتة، ولكن لبنان لا يستطيعُ استيعابَ أعدادٍ هائلة من النازحين وأن يتحملَ فوق طاقته وإمكاناته. والخشية تبقى في عدم ضبطِ هذا النزوح وتركه ينفلش على مساحة الوطن، مع ما ينطوي عليه ذلك من محاذير أمنية واجتماعية. وصار بالتالي لزاماً التعاطي مع هذه المشكلة بطريقة مختلفة لا تمس أبعادَها الإنسانية وتخضعها لقيود وضوابط لتلافي الفوضى والتسيّب والمخاطر، وحتى لا يُضاف إلى خطر السلاح المتفلت في شوارع كثيرة خطرُ النزوح المتفلّت من كل رقابة والمتغلغل في الواقع اللبناني الدقيق والحساس.

إزاء هذه اللائحة الطويلة من المشاكل والصعوبات والألغام... ماذا تفعل الحكومة للحدّ منها؟ وماذا يفعل السياسيون للمساهمة في معالجتها؟! فلا يمكن للحكومة أن تستمر في سياسة النعامة، وتشيح بنظرها عن مشاكل الناس وقضاياهم... ولا يجوز للسياسيين أن يستمروا على هذا المنوال من الثرثرة والضجيج ونثر الغبار السياسي للتغطية على المشاكل الفعلية والهروب من الواقع والمسؤولية وتبرير التقصير والإهمال...

اللبنانيون بحاجة ماسة إلى ما يطمئنهم ويهدىء روعهم ويُشعرهم بأنهم في أمنٍ وأمان وفي استقرار نفسي واجتماعي. فالأمن الاجتماعي مهدّد ودخلَ في دائرة الخطر، وهو لا يقل أهمية عن الأمن الأمني والسياسي والاقتصادي، لا بل يتقدمها من حيث الأهمية، لأن الانفجار الاجتماعي كفيلٌ وحده بتفجير ثورة شعبية وإطاحة الاستقرار الهشّ، ولأن القضايا المعيشية والحياتية والاجتماعية والمطلبية هي وحدها التي توحد اللبنانيين وتعنيهم على مختلف فئاتهم وميولهم، ووحدها قضايا عابرة للطوائف والمناطق.

فيا أيها المسؤولون والسياسيون، استيقظوا من سُباتكم قبل أن تُدركَكم الكوابيس، وكفّوا عن اللعب واللهو والإلهاء، وضعوا الإصبع على الجرح قبل أن يصبح جرحاً نازفاً لا يلتئم... فإذا كانت الحكومات وطاولات الحوار والاستراتيجيات الدفاعية وما يحصل في المنطقة أكبر منكم بسبب إرتهان قراراتكم السياسية للخارج وكلها رهن ظروف ومعادلات وموازين قوى إقليمية ودولية، فإنكم قادرون إذا شئتم على تحسين ظروفِ وأوضاع الناس ومستوى المعيشة والخدمات وتسيير عجلة الدولة وتحسين إنتاجية الإدارات والمؤسسات...

أيها السياسيون لا تبحثوا عن أعذارٍ وذرائع! فإن الناس لا ولن تصدقَ كلمة واحدة مما تقولون في مؤتمراتكم الصحافية وفي ردودكم على بعضكم البعض... لا تتأخروا، فالوقت ليس لصالحكم ونقمةُ الناس تزداد يوماً بعد يوم... لقد اوصلتمونا، بسياساتكم الحاقدة وإرتهانِكم إلى الخارج وتفضيلِ مصالح الدول الخارجية على مصلحة وطنكم، إلى الحضيض وإلى "التحت الذي ليس تحتَه تحت"!

فهل يستفيق عندكم الضمير قبل أن تصبحوا في مزبلة التاريخ؟

 * دافيد عيسى - كاتب وسياسي