Follow us

image

الشيزوفرانيا اللبنانيّة - بقلم: أسعد رشدان

أسعد رشدان – خاص جبلنا ماغازين

 

قال أبو تمام : كم منزلٍ في الأرضِ يألفهُ الفتى

وحنيــــنهُ أبــــــــداً لأوّلِ منــــــــــــــــــزلِ...

لا أُنكرُ أبداً حنيني لبيتي الأوّل رغم القرف الذي أعاني منه منذ عقد ونيّف بسبب المسار الانحداري اللبناني الذي لا سبيل إلى إيقافه، لا في المدى المنظور، ولا في أخواته... فبعد مكابرتي واعتكافي حتى عن زيارة هذا البيت ونكراني لوجود أيّ أثر للحنين إلى لقاء الأصدقاء والأحباء، وجدتني في مطار جورج بوش الدولي في هيوستن (تكساس) أجرّ حقائبي وأنتظر دوري في الصف الطويل لأعبر الى أرض الفينيقيين التجار الذين لا ربّ لهم سوى المال، فعبروا البحار من أجله، ﻻ بل بنوا أفضل السفن بهدف الحصول عليه.

وأنت في لبنان، لا يسعك إلا ان تُشبّه أبناءه بأولئك الفينيقيين أجدادهم، فهم ﻻ ينفكّون "ينتفونك" حتى آخر ريشة في جلدك. لماذا هذا التذمّر الأشبه بالنقّ الآن؟ قد يتساءل البعض... فلنبدأ بوضع النقاط على الحروف انطلاقا من آخر تجربة لي مع الحنين والتي قد تكون اﻷخيرة!

لسان حال اللبنانيين كان منذ عقود وحتى الساعة يقول: "ما في دولة". البعض منهم يذهب أبعد في التعبير عن شعوره بالقول: "ليش ايمتى كان في دولة؟"...أما أنا فأقول: إنه غضب الله على هذا الشعب "العظيم والعنيد" والفينيقي الأصيل. غضبٌ ترجمه الرب بإمطارنا برجال الدولة السيّئين على مدار السنين والأيام. فالدولة وُجدت يوماً، رحم الله الرئيس فؤاد شهاب، دولة الياس سركيس وفؤاد بطرس وأحمد الحاج وأمثالهم. لكن الشر يبقى الأقوى في بلاد التجاّر والتجارة، بلاد السماسرة والسمسرة، بلاد المرتشين والرشوة... فقوّضوها.

هذا لا يعني انني اتّهم كلّ البشر بالسؤ، ولكن الكفّة راجحة ﻻ بل طابشة لصالحهم، أي السيّئين. قد يستغرب بعضهم كيف أن "البلد ماشي" من دون وجودٍ للدولة. لهؤلاء أقول: كل القبائل التي وُجدت منذ فجر التاريخ "كانت ماشيي" وصولاً إلى قبائل لبنان.فلا عجب اذاً... ولست بوارد البحث في مفهوم الدولة كي ﻻ أخرج عن السياق.

أختصر وضع لبنان بقولٍ للبنانيٍّ عارفٍ وواثقٍ وعالمٍ وحكيم، ذهب ولم يعد إلّا ميتاً، حيث قال: ٍألويل لأمّة كثُرت فيها الطوائف وقلّ فيها الدين! أتعتقدونه كان مازحاً ؟ أو أنه كان يلمّح إلى الولايات المتّحدة الأميركيّة مثلاً ونحن "يا غافل إلك الله"؟ ماذا لو عاش حتى اليوم؟ لكم أن تتخيّلوا ما كان عساه يقول...

ها نحن نصل إلى بيت القصيد. ما الذي يجري داخل أسوار هذه "العصفوريّة"؟ إسمع تحزن، جرِّب تفرح. لا لست مخطئًا... إنه بلد العجائب! حتى الأمثال تتقلّب معانيها ومفرداتها عندما تلامس أجواءه. لم أصدّق أن دولة لا تستطيع ضبط تهريب أجهزة خليوية عبر مطارٍ واحد ومرفأ واحد ومعبر برّيّ واحد، وتستعيض عن ذلك بعمليةٍ أقلّ ما يقال فيها إنها مقرفة، لا بل مقزِّزة، خلاصتها مجهود مضنٍ وتحويل عطلة المغترب الزائر الى معاناة لا تنتهي؛ والكل يعرف التفاصيل... ﻻ أُخفيكم أنني كنت خائفاً لا أعرف لماذا وممّاذا عند ولوجي صالات مطار الرئيس رفيق الحريري الدولي. أضواء خافتة حوّلت خوفي إلى حبس أنفاس إذ أنه المطار الوحيد في العالم الذي تعرف فيه أنك في الليل. هذا مع الحرص، قبل سفري، على الّا أذكر شيئًا عن رحلتي في أيٍّ من وسائل التواصل الاجتماعي، وقد عاتبني على ذلك معظم الأصدقاء. لا أُنكر في المقابل أن للوصول وللخروج من المطار المذكور بعد منتصف الليل، فائدة هامّة جداً، ألا وهي انتفاء زحمة السير في هذا الوقت رغم أن التعويض ما لبث أن وافاني صباح اليوم التالي لوصولي.

أنا رجل أدمن على الاستماع إلى كل الأخبار اللبنانية من معظم الإذاعات والمحطات التلفزيونية يومياً من الصباح وحتى المساء. وما أسمعه يدعوني إلى الخوف والقلق والشفقة على إخواني اللبنانيين: لا حكومة، لا أمن، لا قضاء، وﻻ هيبة للدولة؛ ناهيك عن الوضع الاقتصادي المنهار والبطالة المستشرية والإقفال الطوعي للمؤسسات التجارية والسياحية، وتراجع النموّ، ﻻ بل انعدامه، نسبةً إلى السنوات التي سبقت تأليف هذه الحكومة التي تشبه إن تشبه شكلَ وزرائها ومَن وراءهم...  إشارات سير في وسط المدينة وكأنها لم تكن، إذ لا أحد يجرؤ على المرور إن كان الضوء أخضراً أوحتى بألوان قوس قزح. مسحة من الحزن تغلّف نفسي سببُها كان خليطاً مما كنت أسمعه. الطريق سالكة وآمنة إلى حيث كنت أقصد. كانت سهرة عرس أحد أنسبائي. لم تختلف عن أيٍّ من سهرات سبقت غربتي بوقت طويل، ﻻ بل تميّزت عنها بأشواط. كذلك كان العرس لاحقاً. أربع الى خمس سيارات فخمة تتقدّم سيارة العروسين. كما ازدانت الكنيسة بزينة ملكية لم تقلّ أهمية وجمالاً وفخامة وكرماً عن العشاء اللاحق حيث عدد المدعوّين تجاوز المئتين. أذكر هذه التفاصيل كي أظهر الفرق بين ما كنت أتخيّله وبين الواقع المعاش. فعندما غادرت لبنان في الـ 2002 كانت المطاعم تطبّل وتزمّر وتضع اليافطات في كل مكان، تعلن فيها استقبال الزبائن بسعر لا يصدقه أحد وهو 10000 ليرة لبنانية للشخص الواحد: أكل وشرب مفتوح... يومها لم تكن الأوضاع - لا العسكرية ولا السياسية وﻻ الاجتماعية - أسوأ مما هي عليه اليوم. أما ما الذي يجري حاليا في فينيقيا؟ اختصر الوضع بجملة قد تُعتبر تشاؤميّة لكنها برأيي تعبّر فعلاً عما يدور هناك... العبارة هي : " يا رايح كتّر القبايح" أو " قرش من ضهرو ولا يوم من عمرو"، ففي قرارة النفس عند العارفين، قناعة راسخة بأن الوضع "الممكيج" لن يطول. نعم، هكذا هو الواقع ولن أغوص في التفاصيل المملّة والمقزّزة. أضف إلى ما لمّحتُ اليه، أنك في بعض هذه المطاعم الموجودة في بيت مري مثلاً، زبون من الدرجة الثانية مقارنةً مع الزبائن الخليجيين أو من بقي منهم (وهم على فكرة ما زالوا كثراً هناك). أما الأسوأ من كل ما ورد آنفا هو انهم يدفعونك الى المغادرة دفعاً بشتى الوسائل الوقحة كي يستقبلوا غيرك ويستمروا في الدوران العبثيّ، فأنت بالنسبة إليهم تبقى عابر سبيل و"غْريب" حتى لو حملت معك المجاذيف الى المطعم ولبست اللون الأرجوانيّ.

أما مظاهر الحياة الخارجية فصادمة بالمقارنة مع ما تسمعه من أخبار.

في أحد الأيام توجهنا الى جبال كسروان لتناول الغداء في أحد مطاعمها ولعلّه كان الأفضل، إذ أن "الفوارغ" واحدة من مازاته الدائمة.

في الواقع ليس هذا ما أريد التحدّث عنه، إنما عن أمرين. الأوّل: عدد السيارات في البلد وأنواعها ونسبة ارتفاع أسعارها، والثاني: توفّر إمكانيّة اقتنائها.

انطلقنا من عمشيت. من أوتوستراد الذوق صعودأ، تبدأ عجقة السير ولا تعرف أين تنتهي. كان علينا أن نلتقيَ بأصدقاء لنا في ايّ مكان هناك لكنهم تأخروا لانهم يأتون من بيروت، وما أدراك ما هو الخروج من بيروت ظهر الأحد والدخول اليها مساء اليوم نفسه؟ عند مستديرة ريفون حيث العجقة ما زالت كما هي، توقفنا جانبا بآنتظار وصول الأصدقاء لننطلق سويّا إلى الغداء.

أنا الآن، أقيم في وسط أميركا وتحديدا في مدينة هيوستن من ولاية تكساس حيث فرص العمل متوفرة بشكل جيّد مقارنة مع باقي الولايات وحيث لا توجد ضريبة للولاية على السلع state tax نظرا لقدرة الوﻻية النفطية العالية. في هذه المدينة تجد أن نسبة السيارات القديمة في شوارعها والتي يزيد عمرها عن العشر سنوات، قد تفوق الثلاثين بالمئة من مجموع السيارات، بينما لم أستطع ولمدة ساعة تقريباً من مراقبتي للمشهد اللبناني، أن أسجّل مرور سيارة واحدة ّيزيد عمرها عن الخمس سنوات أو يقلّ ثمنها عن العشرة آلاف دولار. الخلاصة : يعيش اللبنانيون - ولا أعرف كيف - في وضع ليس لمعظم الأميركيين سبيل اليه. كيف؟ لا أعرف. لكنني أتقبّل من القرّاء الكرام جواباً... أخبار فقر وتعتير، وواقع بيختلف كتير، ياي شو كتير!"

إنها باختصار شديد: "الشيزوفرانيا Schizophrenia اللبنانيّة"... ولو أردت الاستمرار في السرد والتوغل في الوضع اللبناني ككلّ، لكتبت مجلّدات لا نهاية لعدد صفحاتها.

في نهاية عطلتي وفيما نحن نقترب من منزل الصديق الحبيب الأستاذ محمّد عبد الحميد بيضون وزوجته الصديقة منى خويص في المنطقة الغربية لبيروت، دوّى انفجار الرويس الهائل. وعندما تلقينا تفاصيل الانفجار، شكرت العناية اﻵلهية التي جعلت معالي الوزير وسعادة النائب يزهد بهذه البهرجة الفولكلوريّة "الحزب - أمليّة" وينسحب من هذه المنظومة، وإلا لَكان يسكن الضاحية حيث كادرات الصف الأوّل وحيث الخطر الدائم والرعب الحقيقي. وبقاء مسؤول حزب الله الأوّل الشيخ حسن نصرالله تحت الأرض لمدة تقارب العشر سنوات أكبر دليل على ما أقول.

إنطباعي آلنهائي:" لبنان، بلد في طور التحلّل، وبسرعةٍ سوف تدهش العالم"!

 

*أسعد رشدان ممثل لبناني مهاجر، مقيم حالياً في هيوستن، تكساس بالولايات المتحدة الأميركية. وهو كتب هذا المقال بناءً على تمنٍّ خاص من جبلنا ماغازين إثر عودته من زيارة للبنان

 

(ملاحظة: الشيزوفرانيا Schizophrenia هو خلل يصيب الدماغ، ويسمى بالعربية: مرض الفصام)