Follow us


ما هي أسباب هجرة اللبنانيين؟

إنّ السبب الرئيس لهجرة اللبنانيين، كما ظهر من الدراسات الميدانية، هو السعي وراء "العمل اللائق" كما حددته منظمة العمل الدولية (ركائزه الثلاث هي الأجر العادل والديمومة والحماية من الاستغلال) وتحسين مستوى المعيشة في شكل عام. وتحصل بعض الاستثناءات النسبية أحياناً عندما تتأزم الحال الأمنية، كما حصل في شكل خاص بعد حرب تموز 2006.

وفق استطلاعات "مدما" في حينه بين الذين كانوا يسعون للهجرة (من خلال طلب تأشيرة أو الاتصال بأقارب أو أصدقاء للسبب عينه) فإنّ نسبة الذين صرحوا بأنّ الحال الأمنية هي السبب الرئيس لسعيهم الى الهجرة ارتفعت من نحو 1 أو 2 في المئة في استطلاعات ما قبل تموز 2006 الى 28 في المئة في تموز 2007 ثمّ انخفضت الى 20 في المئة في شباط من السنة التالية. بالمقابل فإنّ نسبة الذين يعتبرون تحسين مستوى المعيشة السبب الرئيس لسعيهم للهجرة يبلغ عادة ما بين 80 و 90 في المئة.
في حقيقة الأمر أنّ المهاجرين هم على حق في ظنهم أنّ الهجرة تحسن حالهم الاقتصادية وإنها على الأقل تخفف بشكل كبير من نسبة البطالة بينهم. فدراسة جامعة القديس يوسف، التي غطت السنين ما بين 1992 و2007 عن هجرة الشباب يستنتج منها أنّ نسبة البطالة بين المهاجرين البالغين من العمر 18 الى 35 سنة لا تختلف كثيراً عنها بين الشباب في شكل عام عند الهجرة ولكنها تنخفض من نحو 20 في المئة بين المهاجرين عند الهجرة الى نحو 2 في المئة لهذه الفئة العمرية من المهاجرين الموجودين في الخارج.

 

هجرة الأدمغة والكفاءات
وتشير الدراسة عينها الى أنّ نسبة مرتفعة (43 بالمئة) من المهاجرين الشباب (18-35 سنة) هم من الجامعيين، 37 في المئة منهم من المتخصصين في الهندسة والتكنولوجيا والعلوم و30 في المئة في الإدارة والخدمات و13 في المئة في الطب. كما تبين الدراسة أنّ نسبة الجامعيين الشباب في المهجر هي أعلى من نسبتهم بين المقيمين وهي في تصاعد مستمر، مما يعني أنّ هجرة "الأدمغة والكفاءات" بين الشباب تفوق هجرة الشباب ألاقل علماً وتتزايد مع الوقت.وتؤكد استطلاعات (مدما) هذه الاتجاهات بين الذين كانوا يسعون للهجرة. فكما هو واضح في الرسم رقم 1 فإنّ نسبة الذين يسعون للهجرة (تموز 2007) ترتفع في شكل ملحوظ مع المستوى التعليمي من 23 في المئة بين الذين وصلوا الى المستوى الابتدائي وما دون الى 47 في المئة بين الحاصلين على شهادة جامعية. أضف الى ذلك أنّ الحصول على تأشيرة بين الساعين وراءها هو أعلى بين الجامعيين منه بين الأقل تعليماً خاصة في المستويين الإبتدائي والمتوسط، ما يعني أنّ نسبة أكبر من الجامعيين تحقق رغبتها بالهجرة.
ومن المؤسف أن أغلبية الشباب المهاجر، بوفق دراسة لجامعة القديس يوسف، تفيد انها لا تنوي العودة الى لبنان إذ تبلغ نسبة هؤلاء 54 في المئة من مجموع الشباب المهاجرين. وإذا أضفنا الى هؤلاء الى فئة المهاجرين الشباب الذين لم يحسموا بعد أمر عودتهم، وهؤلاء يشكلون 22 في المئة، فإن نسبة الذين ينوون العودة لا يتجاوز 18 في المئة من مجموع المهاجرين الشباب في الخارج. ولا تتفاوت هذه النسب بين الفئات التعليمية المختلفة سوى لذوي مستوى التعليم الابتدائي الذين هم أقل رغبة من الشباب الاخرين في العودة الى الوطن.

الهجرة والبطالة
لا شك في أنّ هناك في شكل عام علاقة ما بين النمو الاقتصادي والبطالة والهجرة. فبارتفاع النمو بعد حد معين (نحو 3 في المئة في لبنان) تنخفض البطالة فينخفض معها عدد المهاجرين الساعين وراء العمل في الخارج. ولكن هذه العلاقة تتعثر إذا ارتفعت فجأة حواجز أمام الهجرة في بلاد المقصد لأسباب سياسية أو أمنية أو اقتصادية فتخف الهجرة ويرتفع مستوى البطالة. هذا يفسر ما حصل في مستويات البطالة ما بين 2002 و 2004. فوفق استطلاعات (مدما) في حينه تبين أنّ مستويات البطالة ارتفعت فجأة خلال هذه المدة في شكل لافت بسبب انخفاض الهجرة الى أميركا وبعض البلدان الأوروبية بسبب حوادث 11 أيلول 2001، ولكنها عادت الى مستوياتها الطبيعية بعد ذلك، ما يؤكد بأنّ الهجرة تلعب الى حد كبير دور صمّام أمان لارتفاع البطالة، بمعنى أنه لولا الهجرة لكانت مستويات البطالة في لبنان، التي تراوح ما بين 9 و 14 في المئة في السنوات العادية، أعلى بكثير ولربما تصل الى ما فوق 20 في المئة، كما حصل في خلال تلك المرحلة، وأكثر من ذلك بكثير بين الشباب الداخلين الى سوق العمل للمرة الأولى.

الهجرة والتحويلات
تبلغ تحويلات اللبنانيين العاملين في الخارج نحو 7,5 مليارات دولار سنوياً، ما يوازي نحو 19 في المئة من مجموع انتاج اللبنانيين في الداخل، أي الناتج المحلي الخام، (وصلت الى 26 في المئة السنة 2004) وما يفوق بـ75 في المئة قيمة كل الصادرات اللبنانية. وهذا يساعد الى حد كبير نمو الاقتصاد اللبناني بشكل عام وما يتعلق بميزان المدفوعات وثبات العملة اللبنانية في شكل خاص.
غير أنّ هناك نظرة أكثر شمولية لمسألة التحويلاتأي تلك التي تأخذ في الاعتبار أيضاً تحويلات العمال الأجانب في لبنان الى بلدانهم، أي مستوى التحويلات الصافي. فمستوى تحويلات اللبنانيين الى الداخل يقابله تحويلات العمال الأجانب الى الخارج. ولذلك فإنّ مستوى التحويلات الصافي هو بالفعل أقل من 3 مليارات سنوياً. فرغم ارتفاع مستوى التحويلات الى لبنان من 5,2 ملياري دولار السنة 2007 الى 7,5 مليارات سنة 2011، فإنّ مستوى التحويلات الصافي بقي تقريبا على حاله، أي نحو 2،8 مليارات دولار بسبب الارتفاع الموازي لتحويلات العمال الأجانب الى الخارج، كما هو ظاهر في الرسم الرقم 2. ولذلك فإنّ أهمية المستوى الصافي للتحويلات للاقتصاد الكلي هي أقل بكثير مما يوحي به مستوى تحويلات اللبنانيين العاملين في الخارج.
غير أنّ هذا لا يقلل من أهمية تحويلات اللبنانيين العاملين في الخارج على مستوى الاقتصاد الجزئي، أي على مستوى الأفراد والأسر. فالذين يتسلمون التحويلات هم بشكل عام غير الذين يدعمون التحويلات الى الخارج. فمعظم الذين يستلمون التحويلات هم أسر محدودة الدخل يحصلون عليها من ذويهم في الخارج بسبب محدودية دخلهم، بينما الذين يدعمون التحويلات الى الخارج إما ميسورون يوظفون الخدم أو مؤسسات توظف عاملين أجانب من مستويات مختلفة وما شاكل. ولذلك فإنّ منافع التحويلات على مستوى الأفراد والأسر هي أكبر بكثير من منافع المستوى الصافي للتحويلات على الاقتصاد الكلي، علماً أنّ هذه المنافع الأخيرة هي ذات أهمية لايجب الانتقاص منها.
تختلف الأدبيات كثيراً تجاه ايجابيات الهجرة وسلبياتها، وتتسم في كثير من الأحيان بطابع عقائدي، وبالتالي بالنظرة الى النظام الاقتصادي الذي يجب العمل على تحقيقه ودور الهجرة في هذا النظام. ولكن بصرف النظر عن هذا النقاش هناك، في المدى القصير على الأقل، حقائق يتفق عليها معظم العاملين في هذا المجال.
أولاً: إنّ تحويلات اللبنانيين في الخارج الى لبنان تشكل الى حد كبير شبكة أمان في منظومة الاقتصاد الوطني من خلال دعم ميزان المدفوعات والاحتياطي من العملات الأجنبية، وبالتالي تساعد كثيراً في تقوية وثبات العملة المحلية، وما يتبع ذلك من إيجابيات اقتصادية. هذا لايعني أنه ليس هناك حاجة لعقلنة هذه التحويلات من الدولة بمحاولة توجيه قسم أكبر منها الى استثمارات مباشرة في الحركة الاقتصادية أو أهداف تنموية أخرى.
ثانياً: إنّ الهجرة، خاصة هجرة الشباب الذين يعانون من مستويات مرتفعة من البطالة، تخفف بالطبع من هذه المستويات داخلياً وتعطي فرصة لهؤلاء لكي يحصلوا على "العمل اللائق" الذي يتناسب مع تطلعاتهم. هذا لا يستثني هنا أيضاً قيام الدولة بما يتطلب لزيادة الاستثمارات التي تخلق فرص عمل للشباب ومحاولة إيجاد "عمل لائق" لهم في وطنهم، ما سيساعد في دفع عجلة الاقتصاد وتعزيز السلم الأهلي.
ثالثاً: لا شك في أنّ المغتربين اللبنانيين لا يساعدون لبنان اقتصادياً فقط، بل يعطون للبنان حجماً دولياً أكبر من حجمه السكاني أو الاقتصادي وذلك في مجالات عدة ثقافية وفكرية، ليس أقلها في المجال السياسي الذي ينعم به لبنان في المحافل الدولية. فلذا إنّ تفعيل وتكثيف التواصل مع اللبنانيين في الخارج، خاصة على الصعيد الرسمي، سيعود بالنفع الكبير على لبنان سياسياً، اضافة الى النفعين الاقتصادي والاجتماعي.
رابعاً: في المقابل إن الهجرة، بخاصة انها تتركز في شكل كبير على المتعلمين وأصحاب الكفاءات، تشكل، مبدئياً على الأقل، اهداراً كبيراً في الموارد الاقتصادية. فعلى سبيل المثال إنّ كلفة تعليم وتدريب المهاجرين اللبنانيين الى أميركا وأوروبا، كما أظهرت بعض الدراسات، تفوق عشرات المرات المساعدات الاقتصادية التي تصل الى لبنان من هذه البلدان. ولكن السؤال يبقى: هل كان من الأفضل أن يبقى الشباب المتعلم في لبنان عاطلاً عن العمل أو يعمل بغير اختصاصه وبأجر زهيد من أن يعمل في الخارج في عمل يتناسب أكثر مع تطلعاته؟
خامساً: إنّ الهجرة المكثفة تنتج خللاً اجتماعياً له تداعيات سلبية. فالهجرة التي تركزت في الماضي على الشباب الذكور في أعمار الزواج نتج منها تضاعف في مستويات العزوبة بين النساء في هذه الأعمار وما فوق، كما نتجت منها بالتالي هجرة متصاعدة للشابات المتعلمات العازبات، خصوصاً الى الإمارات وقطر والكويت. هذه الهجرة الشبابية الكبيرة تركت وراءها الكثير من كبار السن المفتقدين لخدمات الأسرة، ممّا زاد من الطلب على مآوي المسنين والعجزة الذي فاض عن قدرة المؤسسات العاملة في هذا المجال. والازدياد الكبير المنتظر في أعداد كبار السن في السنين المقبلة سيضاعف هذه المشكلة في المستقبل المنظور ما يحتم الاسراع في وضع السياسات العلاجية والوقائية في هذا المجال.

 
*رياض طبارة

مدير مركز الدراسات والمشاريع الانمائية (مدما)