Follow us


عندما تكتب الإعلامية غابي لطيف عن ذكرى 40 سنة على الحرب

الباربيكيو الأخير 13 نيسان

بقلم غابي لطيف – "جريدة النهار"

كان يوم أحد. كنا في نزهة في مدينة عاليه، عروس الجبل. سبعة أشخاص من رفاق المراهقة المجنونة، في رحلة باربيكيو وموسيقى ونظرات دافئة من العاشقين، وترقب وانتظار من الواقعيين، وكنت منهم. أمضينا نهاراً مشمسا ممتعا في ربوع "عاليه" البقعة المنفتحة والمشرفة على بيروت. لم نكن ندري يومذاك انه سيكون اليوم الأخير الذي سننعم به بلبنان الذي عرفناه صغارا. كانت الطبيعة تضحك لنا وتمرح معنا. أحلامنا كانت تطال النجوم وأكثر. كل في رأسه الصغير كان في إمكانه أن يحاكي المستقبل ويرسم طموحاته بلا حدود. في ذاكرتي وفمي، لا يزال طعم اللحم المشوي عالقا. لم أذق بعده شبيها له. وكأنه باربيكيو الوداع للحياة الطبيعية في لبنان - الأمس.

في طريق العودة في السيارة التي كانت تقلني مع أرليت وعدنان وأميمة ولينا وآخرين كانت الموسيقى رفيقنا. من عبد الحليم الى "جو داسان" و"بوب مارلي" و"مريم ماكيبا". والضحكات تملأ خدودنا والنكات لا تتوقف، وكأننا في مباراة للفرح. شعور بالحرية وسط سيارة "ألبويك" الجميلة التي كنت في عداد فريقها، ومنها نعمد الى محاكاة السيارات الأخرى عبر إشارات الأيدي. كانت الدنيا بألف خير.
لدى وصولي الى المنزل في بيروت السابعة مساء وجدت أمي متجهمة وقلقة: الحمد الله وصلت بخير، الدنيا ولعانة الم تسمعي الرصاص؟ عم تتكلمين؟ قالت بصوت متهدج: حصل اشتباك في عين الرمانة، وأصوات الرصاص وصلت الى الاشرفية. صعقت للخبر وشكرت ربي أني وصلت، والجميع داخل المنزل في أمان. لكني شعرت بانقباض كبير في صدري. ما هذا الذي يحدث، وهل سيكون عابرا أم لا؟ الايام المقبلة حملت لي الجواب الصعب: لم تكن حادثة عابرة بل كارثة سأستشف في أيامها الاولى خطورتها وتعقيدها. وهكذا بدأت رحلة العذاب المريرة. احد عشر عاما من الترحال، من الأشرفية الى جونية الى عمشيت الى قبرص، ومن ثم الى بعبدات وبرمانا من جديد... جلجلة من الاختباء والهرب من أصوات المدافع ومن مكائد القناصة ومن أزيز الرصاص والراجمات والموت المحتمل في إي لحظة. كأنه كتب علينا الفرار من اجل أن نحيا!
نحن جيل عاش العنف والقسوة والانقسام والتهجير والهجرة. حرب لبنان زلزال كسر أحلامنا وسرق الكثير من أبنائنا وأهلنا، وغيّر أقدار مئات الآلاف من اللبنانيين المنتشرين في بقاع الأرض.

كنت في قمة السعادة مشغولة ببناء حياتي الإعلامية الجديدة، فالقدر منحني فرصة الانتساب الى تلفزيون لبنان وفرصة التعلم والتعرّف على تلك الشاشة السحرية التي أحبتني وأحببت. لكن درب الجلجلة للوصول اليها في الحازمية كل يوم تحت وابل الرصاص والراجمات والجثث لمدة احد عشر عاما لم يعد ممكنا. رؤيتي الداكنة للحاضر المجنون قادتني الى قبول عرض إذاعة مونت كارلو، رفيقتي في الأيام اللبنانية السوداء. فالترنزيستور الصغير الموضوع في جيبي لم يكن يفارقني في لحظات الرعب. منه استمع لجورج بشير مراسل الإذاعة لموافاتنا بأخر الأخبار الميدانية والخطوط العريضة لما ستؤول إليه الحرب اللعينة. وباريس، مدينة أحلامي، والحصول على شهادة الدكتورة من طموحاتي. لكن السبب الرئيس الذي عزز هذا الخيار هو أنني، وبعد سفر افراد عائلتي لكسب العيش في الخارج، كنت أخشى أن أُحمل مقتولة الى صدر أمي.

قلت في نفسي سنة واحدة من العمل الإذاعي الفرنسي وأعود. لكن خبر إقالتي من تلفزيون لبنان غيّر خارطة طريقي ورسم لي إقامة امتدت لأكتر من ربع قرن.

ماذا لو لم تقع الحرب اللعينة؟ ولو بقي الشباب على قيد الحياة؟ ولو لم تتكسر الجدران على رؤوسنا؟ ولو بقي لبنان منارة الشرق وواحة للسلام؟

ماذا لو لم أغادر الى إعلام أخر وبقيت اشتم رائحة البحر، أعبث بشعري والعب بالكلمات؟

بعد أربعين يوما أو سنة... يبقى حلم العودة في المسام.

سنرجع حتما الى حيّنا... سنعود محملين بثقل السنوات... او بالأكفان...
وسُنقبل تراب لبنان، وتستريح الأحلام.

أربعون عاما على اندلاع الحرب؟ لا. بل أربعة عقود من الاقتتال بأقنعة مختلفة!

 

*عن جريدة النهار