Follow us


لبنان بين الإنفجار الديموغرافي والخطر الجغرافي

ما إنْ فشلَت «حروب الآخرين» في تقسيم لبنان عبر سياسة الإيقاع بين مكوّناته وإقامة الحواجز بين المناطق، حتى بدأت حربٌ من نوعٍ آخر تقوم على التلاعب بمكوّناته ديموغرافياً وجغرافياً. والبعض يعتبر أنّ الحربَ اللبنانية كانت جزءاً من مخطّطٍ أُعِدَّ له قبل 40 عاماً، ويُعمَل على تنفيذه اليوم بهدف تقسيم الشرق الأوسط، ويمتدّ من العراق في حدّه الإيراني (الشيعي) إلى البحر الأبيض المتوسط والعمق التركي (الكردي والسُنّي) وكردستان وصولاً إلى ساحل اليمن.

كتبت ساندرا الصايغ في جريدة "الجمهورية":

يقول البعض إنّ التلاعب بالديموغرافيا اللبنانية بدأ بمرسوم التجنيس الذي منَح 250 ألف من غير اللبنانيين الجنسية اللبنانية، بأغلبية ساحقة مسلِمة، إضافة إلى عدم إقرار قانون حقّ الاقتراع للبنانيين المقيمين في الخارج، وعدم إقرار قانون استعادة الجنسية للمتحدّرين من أصل لبناني.

وفي هذا السياق، يقول الأمين العام للرابطة المارونية فارس أبي نصر لـ«الجمهورية» إنّ «الرابطة المارونية طعنَت في مرسوم التجنيس وحصلت من مجلس شورى الدولة على حكمٍ بالإجماع، لأنّ هذا المرسوم صدر بغير حقّ، فيما لم يُبَتّ بعد بمشاريع القوانين المتعلّقة بالجنسية واقتراع المغتربين».

ويحذّر من «أنّ الوضع اليوم قابلٌ للانفجار مع كلّ زيادةٍ في التفاوت الديموغرافي بين اللبنانيين والأجانب، خصوصاً في ضوء النزوح السوري، وهذا الأمر يذكّرنا بالنزوح الفلسطيني الذي بدأ عام 1948، وراحَ يتفاقم حتى العام 1967، وحصدنا تداعياتِه من خلال الحرب التي نشَبت بتشجيعٍ عربي في الدرجة الأولى، وأجنبيّ في الدرجة الثانية».

ويلفت أبي نصر إلى أنّ «النزوحَ السوري بات أزمةً تفوق بتعقيداتها ما حصلَ مع اللجوء الفلسطيني»، معتبراً أنّ «النزوح السوري له أبعادٌ طائفية، إضافةً إلى الوجود البشَري الكثيف والسلاح، فيما اللجوء الفلسطيني كانت له أبعادٌ عربية ووطنية».

توزُّع الأجانب

ويلاحظ أبي نصر أنّ «الوجود السوري في لبنان تخطّى ثلثَ عدد اللبنانيين، والنازحون موزّعون على كامل الأراضي اللبنانية وفق الآتي:
1-
السوريّون العاملون الذين يشكّلون اليد العاملة الوافدة من الشام وباتوا مع الوقت متخصّصين في بعض المهَن التي تنافس اللبنانيين مباشرةً أو مداورةً، ولكن من دون أن تشكّل خطراً طالما إنّها تبقى ضمن إطار مراعاة القانون عموماً والقرارات والمراسيم الصادرة عن وزارة العمل خصوصاً.

2-
السوريّون النازحون الذين هم الأخطر وينقسمون بدورهم إلى قسمين:

-
الذين يجب استضافتهم والاعتناء بهم لدواعٍ إنسانية.

- «
المشبوهون»، وهم الموجودون على الحدود اللبنانية بدءاً من شاطئ البحر في الشمال صعوداً إلى القاع ومروراً بعرسال وجرودها وصولاً إلى البقاع الغربي». وينَبّه أبي نصر إلى أنّ «هذا الوجود هو قنبلةٌ موقوتة بدأت تنفجر في عرسال التي تشكّل 5 في المئة من مساحة لبنان وتُعتبَر أكبرَ قرية لبنانية، وستنسحِب إلى بقيّة المناطق الشرقية والغربية المتفلّتة، إضافةً إلى استيرادها الفِتن الداخلية بين الطائفتين السنّية والشيعية».

ويرى أبي نصر «أنّ الوجود الفلسطيني ما زال خطراً على لبنان إذا لم تُطبّق القرارات الدولية لنزع السلاح من المخيّمات بعيداً من تواطؤ السياسيين»، مؤكّداً أنّ «منطقة الناعمة في الدامور، وقوسايا في شرق زحلة، ومخيّم عين الحلوة في صيدا، والبداوي في الشمال، هي بؤَر إرهابية من الدرجة الأولى وغير منضبطة، وقد تنفجر في أيّ وقت».

ويوضِح أبي نصر أنّ بقيّة الجاليات، وخصوصاً الجاليات العاملة من أثيوبيين وبنغلادشيين ومصريين وغيرهم، «خاضعةٌ لسيطرة الأمن العام ووزارة العمل، وما يفوق الـ80 في المئة من أفرادها وضعُهم قانونيّ ولا يشكّلون أيّ خطر أمني أو اجتماعي».

بيعُ الأرض

بلغَت نسبة بيع الأراضي في لبنان 0.352 في المئة، أي 36.641130 م2 لـ67638 مالكاً أجنبياً. وفي هذا السياق، يؤكّد أبي نصر أنّ «التلاعبَ الديموغرافي رافقَه أيضاً تلاعب جغرافي من خلال بيع الأراضي من جهة والتعدّي عليها من جهة أخرى»، موضحاً أنّ «البيع يحصل لمساحاتٍ شاسعة وبأسعار تتخطّى الأسعار الرائجة».

ويلاحظ أنّ «أراضي لبنان تُسحَب تباعاً من تحت أقدام اللبنانيين، ما يجعل حالهم شبيهة بالفلسطينيين في إسرائيل، لا بل إنّ المخطّط هو نفسُه»، مشيراً إلى أنّ «قانون تملّك الأجانب الصادر عامَ 2003 تخطّى النسبة المئوية في بيروت، فيما أصبحَت مناطق جبل لبنان شبه مستثمَرة بكاملها».

ويرى أبي نصر أنّ «الهجرة هي عنصر ثالث إلى جانب التغييرَين الديموغرافي والجغرافي، وستُساهم في تأزّم وضع الكيان اللبناني»، مبدياً أسفَه لأنّ «لبنان يخسر أصحاب الكفاية والعلم والقدرة الذين يهاجرون إلى القارات الأوروبية والأميركية والاوسترالية».

ويشدّد على أنّ «التغيير المتواصل في الوضع السياسي سيؤدّي إلى تغيير النظام برُمّته، ما سيؤثّر جذرياً على التموضع الاقتصادي والاجتماعي في الجغرافيا اللبنانية»، مؤكّداً أنّ «تغيير النظام أو اعتماد اللامركزية الموسّعة سيغيّر الوضع من الناحية الاقتصادية، خصوصاً لدى الطبقة الوسطى».

وعن الإجراءات الواجب اتّخاذها ليحافظ اللبنانيون على أرضهم، يجيب: «لا بدّ من وضع حدٍّ للنزوح السوري من جهة، ومعالجة السلاح الفلسطيني غير الشرعي في المخيّمات، ومنع حصول البيوعات غير الشرعية للعقارات لجهات أجنبية من جهة ثانية».

ويضيف: «الإجراءات تُطبّق من خلال التواصل مع مختلف رؤساء البلديات لتفادي بيع العقارات، واعتماد المراقبة المسبَقة لأيّ محاولة بيع وإصدارِ رخصٍ للبناء، ومنع زيادة عامل الاستثمار، ووضع مناطق تحت الدرس، وإجراء استملاكات محدّدة ووضع إشارات على الصحائف العقارية»، مشدّداً على أنّ «الرادع الأهمّ هو إقرارُ مشروع قانون الردع للبيع غير المشروع». ويختم: «اللبناني يبقى هو الخفير الأوّل».

خليّة أزمة

تدخل إلى لبنان نِسَبٌ متفاوتة من الأجانب، ترتفع في فترات وتنخفض في أخرى. ولكن، في الفترة الأخيرة ارتفع منسوب الأجانب نتيجة النزوح السوري والجاليات الأجنبية، إضافةً إلى بَيع الأراضي المتزايد للأجانب.

ويشير الباحث والمؤرخ الدكتور عصام خليفة لـ»الجمهورية» إلى أنّه «ما مِن وضعٍ في العالم يُشبه لبنان في ديموغرافيّته. ولذلك من المفروض أن تشكّل الدولة خليّة أزمة تتصدّى لخطر الديموغرافيا وغيرها من الأزمات التي يواجهها لبنان نتيجة الفراغ في المؤسسات الدستورية وانقسام الوحدة الوطنية ومحاولات «داعش» اختراقَ حدود لبنان، والوضع الاقتصادي الصعب، والفقر، وتدخُّل الدوَل الإقليمية».

ويؤكّد أنّ «المشكلة ليست فقط بالنزوح، إنّما تتحمّلها أيضاً الجهات الرسمية التي سمحت بصدور مرسوم التجنيس»، مشدّداً على أنّ «الحلّ محصور في الدولة ورجالها فقط، والتحلّي بالوطنية البعيدة عن التبعية الخارجية». ويطالب خليفة بـ»الحفاظ على أمن المجتمع، حتى نتمكّن من الحفاظ على حدودنا، إضافةً إلى استعمال ثرواتنا الغازية والمائية بدلاً من تركِها لـ»الزعران» من السياسيين».

قياديّون يُعيدون التاريخ

من جهته، يُخبِر الباحث والمؤرّخ جو حتي أنّ «لبنان شهد عام 1975 محاولةً فلسطينية لإنشاء وطن بديل لهم، في ظلّ وضع لبنان الركيك آنذاك، وانشغاله في التجارة والكبّة النيّة». ويقول لـ«الجمهورية» إنّ «لبنان يضمّ 600 ألف فلسطيني، حاليّاً، هم في وضعية عدم العودة إلى أرضهم حتى لو عولِجَت قضيتهم»، مشيراً إلى أنّ «القياديّين يكرّرون خطأهم ولا يتعلمون من دروس التاريخ بإيواء مليونَي نازح سوري».

ويؤكّد حتّي أنّ «المسيحيّين في وضع لامبالاةٍ وتعَبٍ سيكولوجي - سوسيولوجي، على رغم النضالات ضدّ الاحتلالات والغزوات، فبيعُ الاراضي والهجرة وانخفاض نسبة الولادات، كلّها أمور تجعل المجتمع المسيحي في حال تقزيم وتقهقُر من زغرتا إلى كفرشيما مروراً بالبقاع وعكّار والجنوب وفي العمق المسيحي، أي جبل لبنان وأقضية الشمال المسيحية».

ويفسّر حتّي أنّ «النزوح الأجنبي يؤثّر في المسيحيين أكثر من المسلمين، لأنّ الفِقه الإسلامي لا يفرّق بين الحدود، ويؤمِن بالأمّة والأخوّة في الدين، ولذلك فإنّ أيّ نزوح لن يؤثّر فيهم كما في المسيحيين، نظراً لوضعِهم الدقيق في الشرق».

ويتوقّف حتّي عند «بيع الأراضي» الذي يحتاج في رأيه «إلى لوبي خارجي لحلّ أزمة الديموغرافيا المسيحية». ويقول إنّ «المسيحيين سيصطدمون بحائطٍ مسدود بسبب انخفاض عدد الولادات والهجرة، ولكنّ ذلك لن يشملَ المسلمين الذين يؤمِنون بالعائلة التي يراوح عدد أفرادها بين 4 و10 أشخاص وسط إقبال المسلِمين على الزواج المبكِر».

ويعتقد حتّي أنَّ «الواقع الديموغرافي الجديد قد يؤدّي إلى حرب أهلية أخرى، إذ قد يطلب المسلمون مثلاً موقعَ رئاسة الجمهورية حسب عددهم»، مشيراً إلى أنّ «المسيحيين لا يشكّلون أكثر من الثلث، ولا تزيد نسبة الطلّاب المسيحيين في المدارس والجامعات عن 27 في المئة».

ويَعتبر أنّ «الخطر الحقيقي على المسيحيين قد يكون بمطالبة قيادات إسلامية باعتماد مبدأ الأكثرية والأقلّية العددية في مناصب الدولة»، لافتاً إلى أنّ «الكنيسة تحضّ على الزواج والإنجاب ليس بهدف الإضرار بالمسلمين، بل للحفاظ على جناحَي لبنان المسيحي والمسلم».

ويلفت إلى أنّ «معظم الشباب المسيحيّين يحلمون منذ صغرِهم بالهجرة، وسط شعور باللامبالاة، وهذا ما لاحظَه البطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير عام 2001 حين أشار إلى أنّ لبنان أصبح ممرّاً أو فندقاً للبنانيين المسيحيين لأنّهم لا يستقرّون فيه».

الاحتيال في بيع الأراضي

نَصَّ القانون العقاري على أنّه لا يجوز لأيّ شخص غير لبناني أن يكسب أيّ حقّ عينيّ عقاري إلّا بعد الحصول على ترخيص بمرسوم يتخَذه مجلس الوزراء بناءً على اقتراح وزير المال، إلّا في الحالات المنصوص عنها صراحةً.

والمادة 7 من قانون تملّك الأجانب تنصّ على أنّه لا يجوز أن تتخطّى نسبة ما يملكه الأشخاص المعنويّون غير اللبنانيين الثلاثةَ في المئة من مجموع مساحة الأراضي اللبنانية، على ألّا تتعدّى 3 في المئة من مجموع مساحة كلّ قضاء، باستثناء محافظة بيروت التي تبلغ فيها نسبة الاستثمار الأجنبي 10 في المئة من مجموع مساحتها.

وفي هذا السياق، يَعتبر المحامي عماد قاصوف أنّ «هناك استنسابيةً لدى مجلس الوزراء في إعطاء الأجنبي هذا الحقّ»، مشيراً إلى «تحايل قد يحصل على القانون لينالَ الأجنبيّ ما يفوق النسبة المئوية المسموح له بها، باستخدام وكالة غير قابلة للعزل أو اتّفاق بيع ذي توقيع خاص، ولذلك لا يمكن حصول الملاحقة القانونية إلّا بعد كشفِ هذا الاتفاق المستتر».

ويوضِح لـ«الجمهورية» أنّ «الملاحقة القانونية تحصل عادةً لدى الكاتب بالعدل الذي له أن يتأكّد من أنّ الأجنبي لا يملك أكثر من 3 آلاف متر قبل منحِه عقد البيع الممسوح أو الوكالة غير القابلة للعزل». ويحذّر من «أنّ اللبنانيين في خطر فقدانِهم أراضيَهم مع الوقت إذا لم يحصل ضبط أمنيّ وتُمنَع عمليات الاحتيال، ففي هذه الحال سنكون أمام مواجهة تغيير ديموغرافي
».