Follow us


ما المقصود بـ "الرئيس القوي"؟

بقلم: دافيد عيسى

حسناً فعلت بكركي عندما بادرت منذ أيام إلى استئناف لقاءات الأحزاب المسيحية تحت إشرافها ورعايتها لمحاولة البحث من الآن في الاستحقاق الرئاسي وكيفية مواجهة كل الظروف والاحتمالات المتعلقة به، مع انهم يعرفون شديد المعرفة ان الأمور صعبة ودقيقة وان الفراغ الرئاسي أمر اصبح شبه محتم حتى حصول توافق اقليمي على سلة متكاملة يكون الاستحقاق الرئاسي اللبناني من ضمنها...
لكن ما يبعث على "الارتياح النسبي" ان القيادات السياسية المسيحية بادرت لطرح هذا الموضوع والتحضير له على رغم معرفتها بواقع الحال بدل انتظار " ربع الساعة الأخير " لطرح الموضوع ولاتخاذ المواقف والخيارات. ويبدو للوهلة الأولى أنهم مدركون لحجم المخاطر والتحديات في هذه المرحلة الاستثنائية التي تفرض إعلان حال طوارىء سياسية بالنسبة للاستحقاقات القادمة وفي مقدمها موضوع استحقاق رئاسة الجمهورية.
ولكن ما لفتنا واستوقفنا في بدايات المعركة الرئاسية هو المناداة بانتخاب رئيس قوي، وان هذه الدعوة صدرت عن بعض سياسيي الصف الأول الموارنة (ميشال عون، سليمان فرنجية وسمير جعجع ) هؤلاء اللذين يختلفون حول أمور كثيرة ولكن صودف أنهم التقوا في تحديد مواصفات الرئيس المقبل وما هوالمطلوب، وأن نظرتهم تقاطعت عند نظرية " الرئيس القوي " ...
مما لا شك فيه ان عبارة " الرئيس القوي " فيها من السحر والجاذبية ما يكفي لدغدغة المشاعر والعواطف لدى اللبنانيين، وان المسيحيين خصوصاً يتطلعون إلى رئيس قوي ويتلهفون لرؤيته بعد طول غياب ولا يزالون مشدودين إلى تجربة الرئيس الشهيد بشير الجميل ووصوله إلى سدة الرئاسة، ويأملون تكرار هذه التجربة التي لا تفارق ذاكرتهم ومخيلتهم وأحلامهم رغم الفارق الكبير في الظروف والتحالفات والخارطة السياسية وموازين القوى . والأهم من ذلك هو الاختلاف الكبير في واقع المسيحيين ووضعهم وما كانوا عليه من وحدة وقوة آنذاك وما هم عليه اليوم من تشرذم وضعف نتيجة عوامل كثيرة لن ندخل في تفاصيلها اليوم حتى لا نفتح جراح الماضي.
السؤال المطروح اليوم هو : ما هو المقصود وما هو المعني بـ " الرئيس القوي " ؟ هل هو الرئيس القوي بعضلاته ؟ أم القوي بصوته ولسانه السليط ؟ أم القوي بمواقفه وخطاباته الطنانة والرنانة والتي تثير حماس الجماهير ؟ نريد تحديداً سياسياً وعملياً لـ " الرئيس القوي " وما يتضمنه من صفات ومقوّمات بدل ان تظل هذه الكلمة كلمة فارغة أو مفرغة من مضمون فعلي وواقعي وحسيّ وعملي، وحتى لا تظل الرئاسة القوية مطلباً نرغب به وحلماً جميلاً يراودنا من دون ان نراه على أرض الواقع .
بكل بساطة ومن دون تعقيدات وأوهام وحسب المنطق والعقل والموضوعية وبعيداً عن مشاعر "الجماهير الهادرة "، فالرئيس القوي هو أولاً الرئيس القوي بصلاحياته ومسؤلياته الدستورية، فأي رئيس مهما عظم شأنه ومهما كان يملك من شعبية ، وأياً تكن المؤسسة القادم منها سواء كانت (سياسية أو مالية أو عسكرية)، لا يمكنه ان يكون مؤثراً وفاعلاً في القرارات أو أن يكون له الكلام الفصل في ظل هذا الانقسام المذهبي اللبناني الخطير وفي ظل الصلاحيات الحالية المناطة برئيس الجمهورية الذي أقل ما يقال فيها إنها أقل من صلاحيات وزير ... ومهما حاول البعض تجميلها ومحاولة إيهامنا بأن الرئيس لا يزال هو حامي الدستور وغيره من الكلام الجميل الذي يستعمله بعض السياسيين (مسيحيين ومسلمين) لتغطية السماوات بالأبوات فهذا الكلام هو بالعربي الدارج " بيع حكي " لا أكثر ولا أقل .
الصلاحيات التي يتمتع بها رئيس الجمهورية في مرحلة ما بعد الطائف لا تساوي المسؤوليات التي يتحمّلها. ثمة فارق وفجوة بين الصلاحيات المحدودة والمتواضعة والمسؤوليات الكبيرة والجسيمة. وعندما نقرأ في نص الدستور نجد ان صلاحيات رئيس الجمهورية كبيرة فهو المؤتمن على الدستور والوحدة الوطنية والعيش المشترك، وأنه القائد الأعلى للقوات المسلحة وهو من يعقد ويبرم المعاهدات الدولية وهو من يشكل الحكومات مع الرئيس المكلف ويوقع مراسيمها ... ولكن مقابل الدور المعطى لرئيس الجمهورية على الورق لا تتوافر له ما يوازي هذا الدور من صلاحيات تتيح له ان يكون فعالاً ومؤثراً في مجرى الاحداث وفي مسار القرارات والسياسات العامة ... وهذا ما يذكرنا بالقول المأثور : إسمع تفرح جرب تحزن .
فلنقل الأمور بكل شجاعة ودون لف ودوران رئيس الجمهورية بصلاحياته الحالية غير قادر على إدارة اللعبة السياسية في البلاد وما تحفل به من توازنات وتناقضات، وهو غير قادر على أن يقوم بدور الحكم بين اللبنانيين . وبالتأكيد هو غير قادر ايضاً على التغيير والتأثير لأنه لا يملك القرار والأداة وحتى لو كانت لديه الرغبة والإرادة، فليست لديه الصلاحيات ولا يعود لديه إلا "سلاح الموقف " يمتشقه ويستخدمه كلما دعت الحاجة الوطنية... وسلاح الموقف هذا يشبهه إلى حد بعيد (عظة كاهن أو خطبة شيخ ) .
من هنا بات من الضروري والواجب إيلاء مسألة صلاحيات رئاسة الجمهورية أهمية واهتماماً من جانب المسيحيين إذا أرادوا ان يستمروا دوراً وحضوراً ومشاركة في القرار اللبناني، ومن جانب المسلمين عامة إذا أرادوا ان يستمر لبنان وطن رسالة قائماً على التوازن والتعددية وقيم الحرية والعدالة والمساواة. وعندها يصبح من الضروري والبديهي إدراج موضوع صلاحيات رئاسة الجمهورية بنداً رئيساً على جدول اعمال الحوار الوطني ومتقدماً على مواضيع أخرى مهمة جداً مثل قانون الانتخابات واللامركزية الإدارية الموسعة ...
وهنا سيأتي من يقول لنا، ليس من مصلحتكم كمسيحيين ان تفتحوا هذا الموضوع اليوم، جوابنا وبسرعة ان المصلحة الوطنية تقتضي فتح هذا الموضوع لنعرف ما لنا وما علينا، لأنه لم يعد مقبولاً اتباع "القاعدة الظالمة" ما لنا هو لنا وما لكم هو لنا ولكم.
المسيحيون عندما يطرحون تصحيح وتصويب صلاحيات الرئاسة فإنهم لا يفعلون ذلك بخلفية الحنين إلى صلاحيات ومكاسب كانت لهم يوماً ورغبة العودة إلى مرحلة ما قبل الطائف. لقد مروا بتجارب مريرة واستخلصوا ما يكفي من عبر ودروس ليكونوا واقعيين ويدركوا ان لا رجعة إلى الوراء. وهم يفعلون ذلك تلبية لحاجة وطنية ولدواعٍ واعتبارات تفرض ان يكون التوازن الوطني قائماً ومصاناً، وأن تكون عجلة الدولة والمؤسسات سائرة ومتيسرة، وان يكون متاحاً لرئيس الجمهورية ان يقوم بدور صمام الأمان وأن يكون عامل توازن في المعادلة الوطنية. فإذا طالب المسيحيون بصلاحيات لرئيس الجمهورية فإنهم لا يفعلون ذلك لمصلحتهم فقط، وإنما لمصلحة كل اللبنانيين بكافة طوائفهم وفئاتهم، بعدما أثبتت الاحداث والتجارب في الاشهر والسنوات الماضية ان رئاسة الجمهورية تبقى الملاذ الأخير والضامن الأساسي للدولة والمؤسسات والوحدة الوطنية إذا ما أصاب باقي المؤسسات التنفيذية والتشريعية فراغ وجمود وتعطيل كما هو حاصل اليوم وفي ظل هذا الانقسام المذهبي الخطير الذي يعيشه لبنان والمنطقة.
إذن الرئيس القوي هو الرئيس القوي بصلاحياته الدستورية أولاً، وبالتفاف المسيحيين من حوله ودعمهم له ثانياً ... ان رئيس الجمهورية هو رئيس كل لبنان وكل اللبنانيين كما رئيس مجلس النواب هو رئيس مجلس نواب كل اللبنانيين ورئيس مجلس الوزراء هو رئيس مجلس وزراء كل اللبنانيين، ولكن شئنا أم أبينا وطالما النظام الطائفي مطبق ومعمول به، فإن رئيس الجمهورية هو ممثل المسيحيين في الحكم وفي الموقع الأول للدولة والأرفع شأناً ومكانة. وهذا وحده سبب كافٍ لنشوء علاقة جدية وتبادلية بين رئاسة الجمهورية والمجموعة المسيحية، وحيث كل طرف هو مصدر قوة للآخر. فالرئاسة تقوى بالمسيحيين إذا كانوا موحدين وهم يقوون بالرئاسة ويستظلون بها ويكونون إلى جانبها لكي يكون لها القدرة على المشاركة في الحكم والقرار .
من هنا المنطق يقول : قبل ان يطالب المسيحيون بالرئيس القوي عليهم ان يكونوا أقوياء. وليكونوا كذلك يجب ان يستردوا وحدتهم وعافيتهم وأن يهمشوا خلافاتهم ويوحدوا إمكاناتهم وقدراتهم، ويرفعوا سقف طموحاتهم ومشاريعهم ... وبدل التلهي بأمور جانبية ومصالح ضيقة وبدل الانزلاق إلى سياسات الزواريب والحارات والغرق في مستنقع الخلافات والمناكفات، على السياسيين المسيحيين أن يوحدوا الصفوف والمواقف لتكون كلمتهم مسموعة ورأيهم مؤثراً في صناعة الاحداث والمبادرات وليكونوا شركاء حقيقيين في الدولة والحكم وفي القرار الوطني...
ولهؤلاء السياسيين أقول وبأسم الاغلبية المسيحية الصامتة : إلعبوا في السياسة واختلفوا قدر ما تشاؤون، وافعلوا وافتعلوا ما يحلو لكم من ألاعيب وتحالفات سياسية، ولكن عندما يتعلق الأمر بالمصلحة المسيحية العليا وبقضايا وملفات أساسية تتعلق بالمسيحيين ودورهم ووجودهم وأمنهم ومستقبلهم، ضعوا خلافاتكم جانباً واتفقوا على موقف حق وكلمة سواء ... اتفقوا كل مرة تكون المصلحة المسيحية العليا تتطلب ذلك لأن التاريخ سيحاسب وهو لن يرحم.
بعد كل الذي استعرضناه لا يعود مستغرباً ان نسأل كيف ندعو إلى انتخاب "رئيس قوي" ونحن على ما نحن عليه من ضعف وتشرذم وعدم قدرة على التغيير والتأثير ... نحن مع الرئيس القوي ولكن الرئيس القوي بصلاحيات تعيد إلى رئاسة الجمهورية دورها ووهجها ومكانتها وألقها، والرئيس القوي هو قوي بمن يمثلهم ، بالمسيحيين الاقوياء بوحدتهم واتفاقهم ...
وفي الختام أقول وبكل أسف أنه احتراماً لعقول الناس واحتراماً لنفسي أجدد ما قلته سابقاً بأنه ليس هناك من انتخابات رئاسية واننا ذاهبون إلى فراغ رئاسي سيمتد مع الأسف أطول بكثير مما يتوقعه البعض، فالقرار مع الأسف ليس بأيدينا كلبنانيين.

 

*دافيد عيسى

سياسي